أدى النموذج الغربي لصراع الحضارات في العصور الحديثة إلى خلق عقدة عظمة لدى الغرب، فهو حضارة العقل والعلم والحرية والعدالة والتقدم والعمران. التاريخ تاريخه، والعلم علمه، والقيم قيمه، والثورة ثورته، والحاضر حاضره، والمستقبل مستقبله، واللغات لغته، والثقافة ثقافته. وخلق عقدة نقص لدى الشعوب غير الأوروبية أنها ناقلة ومقلدة وتابعة ومتعلمة وهامش على المركز وفي محيطه. والغرب يبدع وغيره يستهلك.. الغرب يفكر والآخرون ينقلون.
وكلما زاد النقل من حضارة المركز إلى حضارات المحيط زاد التغريب، ليبدأ رد الفعل في الظهور، أي الدفاع عن الهوية والتمسك بثقافة الأنا ضد ثقافة الآخر، وتنشأ الحركات الأصولية ضد تيارات الحداثة. وربما يتمايز الصف الوطني إلى جناحين أو قوتين اجتماعيتين؛ أنصار الجديد وأنصار القديم، الصفوة والجماهير، النخبة والشعب.. وقد يصل الفصام إلى خصام بين الأخوة كما حدث في أكثر من مكان.
ويبدأ تشويه ثقافات الأطراف من خلال بحوث الاستشراق والأنثروبولوجيا الغربية المعاصرة. فبعد أن أصبح الغرب ذاتاً عارفةً ووعياً خالصاً، حوّل غيره إلى موضوع للمعرفة، فنشأ الاستشراق. الغرب ملاحِظ (بكسر الحاء) والشرق ملاحَظ (بفتح الحاء)، فنشأت علوم الصينيات والهنديات والإيرانيات والإسلاميات والمصريات.. تعبّر عن رؤية الذات أكثر مما تكشف الموضوع. وبدأت نظريات التشيؤ للآخر التي تكشف عن العنصرية مثل «العقلية البدائية» (ليفي بريل)، «الفكر البري» (كلود ليفي شتراوس)، «العقلية السامية» (رينان).
وقد تبدو بعض المظاهر «الإيجابية» لصراع الحضارات في الظاهر ولكنها في الحقيقة كانت لخدمة الغرب في المركز أكثر منها لصالح شعوب الأطراف. فإذا كانت فرنسا قد نشرت اللغة والثقافة الفرنسيتين في الجزائر فقد كان ذلك على حساب الهوية المحلية والحضارية للشعب الجزائري وجذوره الثقافية، الجذور التي ستكون مصدر حركات التحرر الوطني متمثلة في «جبهة التحرير». وبقدر ما تم تعميم اللغة الفرنسية والتعليم الفرنسي بقدر ما تم تدمير مدارس اللغة العربية. وكان من الطبيعي بعد الاستقلال أن تنشأ حركة إعادة تعريب الجزائر كرد فعل على فرانكفونية النخبة. 
وما حدث في الجزائر حدث أيضاً في عديد من الدول الأفريقية، الفرانكفونية والأنجلوفونية على حد سواء، قبل تقويض الآمال في تطوير اللغات الأفريقية الوطنية، بما في ذلك «السواحلية»، كي تصبح لغات وطنية يتم التخاطب بها بين شعوب أفريقيا التي مازالت لغويا وثقافيا مرتبطة بالغرب حتى بعد الاستقلال. وبقيت اللغات المحلية للأسواق وللفنون الشعبية، ثم أصبحت مكتوبة بالحرف اللاتيني دون أن يفيدها ذلك. وإذا كانت الهند قد توحدت لغوياً بفضل الإنجليزية فإن ذلك منع من تطوير اللغة الهندية حتى تصبح لغة قومية لأكثر من مائة إثنية لغوية.
وقد يُقال إن من مآثر النموذج الغربي الحديث، تحديث المجتمعات وبناء الدول، وشق الطرق، وبناء المدن الحديثة، وتأسيس العمران، وإقامة الجامعات، وإدخال شعوب الأطراف عصر الحداثة وتأهيلها لوسائل العلم والتكنولوجيا وأساليب الحكم القائمة على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل.. إلخ. 

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة