عندما أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الحرب على العراق، وصف تلك الحرب بأنها «صليبية جديدة». استهجن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني هذا الأمر، ووصف تلك الحرب بأنها «غير مبررة أخلاقياً أو دينياً». ومنذ ذلك الوقت انقطعت العلاقة بين الفاتيكان وإدارة بوش. بعد الحرب أبدى البابا رغبة في زيارة العراق وتحديداً زيارة «أور» في جنوب العراق، من حيث انطلق خليل الله إبراهيم عليه السلام. لكن الرئيس العراقي في ذلك الوقت صدام حسين لم يرحّب ولم يتجاوب. فصُرف النظر عن الزيارة وكان الرفض خطأً استراتيجياً فادحاً.
ومع ذلك، لم يتأخر الفاتيكان بإعلان الموقف من مسيحيي العراق، فرفّع البطريرك ساكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك، إلى رتبة الكاردينالية، ليصبح هذا المسيحي العراقي ليس فقط عضواً في المجمع الانتخابي للبابا، بل ليصبح بإمكانه الترشّح لمنصب البابوية أيضاً. بعد ذلك لعب الكاردينال الجديد دوراً بنّاءً في مؤتمر السلام العالمي الذي نظّمه الأزهر الشريف في مقرّه بالقاهرة، والذي حضره البابا فرنسيس نفسه في أول زيارة له إلى العاصمة المصرية.
زار البابا بعد ذلك أبوظبي، حيث وقّع مع إمام الأزهر الدكتور الشيخ أحمد الطيب على وثيقة الأخوّة الإنسانية. وبعد ذلك زار المغرب وحل ضيفاً على «أمير المؤمنين» الملك محمد السادس، والذي حرص على استقباله بهذه الصفة. وقبل ذلك زار عمّان (في طريقه إلى نهر الأردن ومن ثم إلى القدس)، حيث استقبله الملك عبد الله بصفته حفيد رسول الله محمد عليه السلام. وحرص الملك على أن يذكر ذلك في خطاب الترحيب برأس الكنيسة الكاثوليكية.
والآن تأتي زيارته للعراق، وتحديداً إلى النجف حيث يحل ضيفاً على آية الله علي السيستاني. لم تتقرّر زيارة النجف مصادفة، بل بعد دراسة معمّقة، وفي ضوء أمرين أساسيين:
الأمر الأول هو أن النجف لا يقول بولاية الفقيه. ذلك أن استبعاد هذا المنطق يعزز القول بالدولة الوطنية، وهو ما يدعو الفاتيكان إليه، منذ السينودس حول لبنان (1995)، إلى السينودس حول الشرق الأوسط (2010)، إلى «وثيقة الأخوّة الإنسانية» (2019). فالقاعدة التي تقوم عليها الدبلوماسية الفاتيكانية في الشرق الأوسط تقوم على تأكيد وتكريس مبدأ المواطنة، والتي تعني حقوقاً دستورية ثابتة وموثقة لا منّة فيها من أحد لأحد. وهو ما يحتاج إليه مسيحيو العراق كأساس للحياة المشتركة مع الطوائف المتعددة الأخرى.
أما الأمر الثاني، فهو أن النجف هو المرجعية العربية للشيعة. وزيارة النجف هي بمثابة إعلان احترام وتقدير لهذه المرجعية. كان يمكن أن يلتقي البابا بالسيستاني مع الرؤساء الروحيين الآخرين في العاصمة بغداد. وكان ذلك مطروحاً. إلا أن تخصيصه بالزيارة في مقره بالنجف كان مقصوداً في حدّ ذاته، كبادرة تقدير واحترام للمكان وللشخص لما يمثله من مرجعية ولما يقوم به من دور وطني جامع. وهذه رسالة على درجة عالية من الأهمية، خاصة في هذا الوقت بالذات.
يعرف الفاتيكان جيداً مدى السوء الذي أصاب مسيحيي العراق جراء الاجتياح الأميركي. وكان يخشى عليهم من تبعات ذلك الاجتياح الذي انطلق تحت شعار «صليبي». وبالفعل، فقد كانوا في مقدمة ضحايا ذلك الاجتياح. إذ وقعوا بين مطرقة التطرف الذي رفعت لواءه حركات إرهابية باسم الإسلام، وسندان الاجتياح الذي رفع راية «الصليبية». حتى أن حركات التبشير الإنجيلية الأميركية (Born Again) التي رافقت قوات الاحتلال بمساعدات «إنسانية»، فوجئت بتمسك مسيحيي العراق بتراثهم الديني (الكاثوليكي والأرثودكسي) ورفضهم المساعدات التي كان يعرضها عليهم المبشّرون الإنجيليون. وكان مسيحيو العراق يقولون لهم: «أنتم تبشروننا بالمسيحية ونحن أهلها منذ ظهور المسيح؟». ومن المؤسف ومن المؤلم معاً أن هذا الموقف الديني الوطني لم يفهمه المتطرفون الإرهابيون الذين عاثوا فساداً في الأرض قتلاً وتدميراً وتهجيراً باسم الإسلام.
من هنا، تأتي زيارة البابا إلى العراق لتعيد الأمور إلى نصابها من جديد، لكن هذه المرة على قاعدة المواطنة (الأخوّة الوطنية) وعلى قاعدة الإيمان بالله الواحد (أي الأخوّة الإنسانية).
لقد كان إبراهيم عليه السلام أول المسلمين لله تعالى، وهو بذلك كان أب حَمَلَة الرسالات التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، والنبوّة الإبراهيمية التي انطلقت من «أور» بالعراق تشكل القاعدة والأساس لرسالة الأخوّة الإنسانية التي تشمل الناس جميعاً. لقد حمل البابا فرنسيس هذه الرسالة حتى إلى ميانمار دفاعاً عن حقوق المسلمين هناك. وكان المرجعية الدينية الوحيدة في العالم التي تحمّلت أعباء ومخاطر تلك المبادرة الإنسانية.. وهو في رسالته حول «الأخوّة والصداقة الاجتماعية»، يقول (صفحة 12): «إن التاريخ أثبت أن العالم يتراجع. وأن هناك صراعات عفا عليها الزمن واعتُبرت منتهية، تشتعل من جديد. وأن هناك قوميات مشحونة بالانغلاق والغضب والاستياء والعدوانية، تنهض من رمادها. إن فكرة وحدة الشعب والأمة محمّلة بأيديولوجيات متنوعة تخلق في العديد من البلدان أشكالاً جديدة من الأنانية وفقدان الحس الاجتماعي تحت قناع الدفاع المزعوم عن المصالح الوطنية»!
في ذلك النص البابوي رسالة إلى العراق.. وإلى لبنان أيضاً. لكن على من تقرأ مزاميرك، يا قداسة البابا؟!