يستدير العالم حول محاوره المختلفة، وتتبدل القوى فتهوي إحداها وتصعد أخرى، وتتغير المصطلحات والمفاهيم، فتظهر نظريات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تقرأ المتغيرات أو تنتقد نظريات سابقة لم تتمكن من الصمود، وتبين عجزها وفشلها، ولكن الحقائق الثابتة، كالبنيان القوي، المقام على أسس راسخة عميقة، ليس من السهل تهاويها أو تصدعها.
خلال القرن العشرين الذي شهد انهيار إمبراطوريات كالدولة العثمانية، وسقوط أحلام كبرى كأحلام هتلر النازية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، تحول العالم من وجود قوتين عظميين إلى القطب الواحد الأميركي، وخلال ثلاثين عاماً (1991 - 2021)، تربعت الولايات المتحدة على مقعد القوة العظمى الوحيدة المسيطرة، ولكن لم تأبه روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا على منافستها، فظهرت النظريات، الواحدة تلو الأخرى، التي ترى أن الهيمنة الأميركية سوف تتداعى، سواء بفعل الساسة الأميركيين أو بفعل ظهور موازين أخرى تقيّم حال الدول ومكانتها وأدوارها في المجتمع الدولي.
المتفحص للمشهد السياسي الدولي، والمراقب لأحداث جائحة «كوفيد 19»، التي فتكت بالبشرية وأظهرت مواطن الضعف في كثير من الدول، يمكنه أن يدرك ببساطة أن الحديث عن قوى عظمى وقوى مسيطرة، أو دول كبيرة أو دول مهيمنة، ليس له أي أهمية على أرضع الواقع، وأن الحصار الذي فُرض على كثيرٍ من الدول، مثل بريطانيا، لا يختلف كثيرا عن حصار «فيكسبيرج» أو حصار «لينينجراد» الذي امتد ما يزيد على 870 يوماً خلال الحرب العالمية الثانية، ورأى المراقبون كيف أن الدول العظمى والمسيطرة سياسياً وعسكرياً، سقطت كما لم تسقط لينينجراد.
أعتقد أن المفهوم الذي يجب دراسته وتكريسه اعتباراً من اليوم، هو مفهوم «الدول المؤثرة»، وليس مفهوم «الدول العظمى»، وأن يكون التقييم ليس نابعاً من القدرة السياسية والعسكرية أو المساحة وعدد السكان، بل بقدرة الدولة المؤثرة في نظم شبكة علاقات دولية مُحكمة مع جميع دول العالم، تُقام على أسس الصداقة والشراكة والتحالف وتبادل المصالح، وقدرة ذات «الدولة المؤثرة» على مساعدة الدول الأقل حظاً، والدول المتضررة والمنكوبة، إضافة إلى قدرة «الدولة المؤثرة» على إعادة صياغة المفاهيم السابقة البائدة التي بُنيت على الحرب والتهديد، وجعلها مفاهيم قائمة على السلام والتآخي والتعايش السلمي.
التطورات الدولية الأخيرة، ساهمت في تغيير المعايير التي يجب الاستناد عليها في التقييم، فالقدرة على تجاوز الأزمات الدولية وكذلك إرساء السلام والأمن الداخلي والخارجي، هي من الأسس التي يجب أن تشرح مفهوم القوة الحديثة، والذي سيسمح للمجتمع الدولي أيضا بإعادة صياغة موازين القوى فتأخذ مع الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية، قدرة الدولة المؤثرة بدورها الفعلي على التماسك والتأثير الإيجابي، وتحقيق التوازن الدقيق على المسرح السياسي والاقتصادي والاجتماعي العالمي.
رغم استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، فإنها تمكنت، خلال 70 عاماً من التحول إلى دولة مؤثرة في المشهد الاقتصادي والتكنولوجي العالمي. ورغم أن دولة الإمارات العربية المتحدة تأسست قبل 50 عاماً، إلا أن نهجها ورؤيتها الحكيمة قد وضعاها على رأس قائمة الدول المؤثرة في المشهد العالمي، فتفوقت في المعايير والمقاييس العالمية، وفرضت نفسها في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسات الحكومية المتقدمة، وكذلك أثبتت جائحة «كورونا» أن الإمارات تفوقت على نفسها وعلى الدول التي كانت تسمى بإمبراطوريات أو دول عظمى بتقديم المساعدات الطبية والصحية لعدد كبير من دول العالم المنكوبة والمتضررة.
ليس هذا فقط ما جعل الإمارات تحتل المرتبة الأولى في الدول المؤثرة، بل إن قدرة الإمارات على تغيير مفاهيم الحرب والصراع والنزاع إلى مفاهيم السلام والأمن والتعايش السلمي هو الذي جعل العالم يبدي إعجابه بحكمة قيادة الإمارات السياسية والديبلوماسية، والجهود الإستراتيجية الجبارة التي تبذلها القيادة الحكيمة الرشيدة، وكذلك تميّز فارس الدبلوماسية الإماراتية، سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، الذي تخرج في مدرسة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وتعلم فيها الحكمة وصناعة السلام، واستطاع سموه، بتوجيه من قيادة الإمارات، وجهود فريق الدبلوماسية الإماراتية، تأسيس وإقامة علاقات قوية ومتينة وإظهار صورة استثنائية للإمارات، ليس لها مثيل.
الإمارات، النموذج الأمثل للدول المؤثرة في موازين القوى الحديثة، تخطو نحو المجد خطواتها الراسخة الواثقة، مستندة على تماسك ومنعة مجتمعها الداخلي، وعلى سواعد أبنائها التوّاقين لرفع رايتها على قمم المجد الخالدة.