في 5 فبراير2019 كتبت في هذه الصفحة مقالاً بعنوان «الرجل والمكان والزمان»، أُعلق فيها على زيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات التي تأسست منذ نشأتها على مبدأ التسامح بين الأديان والأعراق والطوائف والمذاهب كدليل على التزامها الحق بالإسلام، وعلى توقيت الزيارة الذي تزامن مع الشهر الثاني من العام الذي دشنته الإمارات عاماً للتسامح تأكيداً لهذا الالتزام. وفي هذه الزيارة وقّع البابا مع فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر على «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك»، استجابةً لجهود الإمارات الحثيثة في هذا الصدد، واتساقاً مع تاريخ الرجل الذي يكشف عن إيمان أصيل بهذا المبدأ من قبل توليه هذه المسؤولية الروحية الرفيعة. وأذكر أن اختياره لتولي هذه المسؤولية لقي ترحيباً فورياً من رجال الدين الإسلامي في مدينته «بيونس أيرس» التي كان رئيساً لأساقفتها، لما عُرِف عنه من احترام للدين الإسلامي، فوصفوه في بيان ترحيبهم باختياره بالصديق للمجتمع الإسلامي. وبمجرد اختياره واصل مسيرته كقائد ديني يشجع الحوار بين مختلف الأديان والثقافات، ويدافع عن العدالة الاجتماعية واللاجئين، ويتصدى للقرارات ذات الطابع العنصري أياً كان مصدرها، ويتحلى بالتواضع والشجاعة في أدائه لرسالته. ولم يكن أدل على شجاعته من زيارته العراق في هذا الوقت العصيب الذي يشهد جائحة كورونا وتتسم فيه أوضاع العراق بسمات مقلقة، كالمظاهرات الاحتجاجية من حين لآخر ضد تدني الخدمات والفساد، وأعمال العنف المجتمعي المشينة، والتقارير عن محاولات «داعش» العودة إلى واجهة الأحداث، وأعمال العنف غير المنضبطة التي تحاول أن تجعل من البلاد ساحة للصراع الإقليمي والدولي.. وكلها ظروف تدفع مسؤولين أدنى مكانة بكثير من البابا لتأجيل زيارتهم للعراق. لكنه صاحب رسالة لا يصده شيء عن الوفاء بها، وأذكر أن زيارته لمصر في عام 2017 قد سبقها تفجيران متزامنان لكنيستين في مدينتي الإسكندرية وطنطا، وتوقّع كثيرون أن يؤجل الزيارة، ولم يكن أحد ليلومه لو فعل، لكنه أصر على إتمامها في موعدها، وهذه شيم أصحاب المبادئ. 
كان الرجل كعادته وفياً لمبادئه في زيارته للعراق، حيث دعا (بعد وصوله هناك) المجتمعَ الدولي لأداء دور حاسم في تعزيز السلام في العراق والشرق الأوسط، ومواجهة عدم المساواة في مجال الاقتصاد والتوترات الإقليمية التي تهدد الاستقرار. كما شجع الخطوات الإصلاحية المتخذة في العراق، ودعا إلى ضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية، مؤكداً على ضرورة التصدي لآفتي الفساد واستغلال السلطة. والعجيب أن يذهب البعض بعد كل هذه الرسائل الواضحة إلى القول بأن زيارة البابا للعراق ذات طابع «روحي» محض، ولا يعنيني وصفها كثيراً فالمهم هو مضمونها، فالرجل حتى وإن كان ينطلق في مواقفه من منطلق روحي، فهو يفهم دينه بطريقة تجعل من المحتم أن يكون لهذا الفهم تداعيات تؤكد استحالة الفصل بين ما هو «روحي» وما هو «سياسي».
وقد توَّج البابا تحركاته بلقائه المرجع الشيعي الأعلى في العراق، وهو اللقاء الأول من نوعه ودلالاته تمثل نقلة نوعية من منظور التسامح الذي يحمل رسالتَه. وقد صدر عقب اللقاء بيان عن مكتب السيستاني أشار إلى أن الحديث بين الرجلين دار «حول التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر، ودور الإيمان بالله ورسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها». كما جاء في بيان المكتب الصحفي للبابا أن اللقاء شكل فرصة له «لشكر آية الله لأنه رفع صوته مع الطائفة الشيعية إزاء العنف والصعوبات التي شهدتها السنوات الأخيرة دفاعاً عن الضعفاء والمضطهدين». 
وليبارك الله كل الخطى على طريق التسامح الإنساني الحق.