قد يمتلك الإنسان الكثير من الشهادات العلمية والخبرة والمعرفة، ويقضي وقتاً طويلاً في القراءة ومتابعة كل ما هو مفيد من البرامج الثقافية والعلمية والدينية، ولكنه في الوقت نفسه يُصنف كشخص أميّ يسهل استغفاله، أو يسير مع التيار العام ويتملكه الخوف من أن يوصف بالجنون والغرابة عند سيره عكس التيار، وهو بذلك لا يصل لدرجة الأصالة في الاستنارة في الفكر، بعد أن وجد صعوبة في امتلاك مهارة التفكير العميق، وهي مرحلة لا يصل إليها كثير من البشر، لذا يعتبر التفكير العميق منبعاً- في الطبيعة الأولى- لمحددات آفاق العقل، وما يتفوق على التفكير العميق، الحكمة، وهي هبة يمنحها الخالق للمخلوق، في حين يتطلب التفكير العميق الكثير من الجهد ضد الطبيعة العفوية والمتأصلة للعقل والمنطق، الذي يعتبر عدم القبول به خروجاً عن كل منطق، كما أن التفكير العميق، يتطلب منا السباحة ضد هذا التدفق، وخلق قوة دفع قد تحظر بشدة ذلك التوجه.
التفكير العميق مصطلح غامض جداً وتجريدي، ومن الصعب جداً بالنسبة لنا أن نتصور ما يجب القيام به عندما يفكر المرء تفكيراً يوصف بالعميق، فإذا قال مفكر، على سبيل المثال، إن التاريخ مشروع سياسي أكثر من كونه حقائق علمية، وإنْ هناك مكتبات حسية وفلكلورية تعيش في الذاكرة الفردية والجمعية تشكل الهوية غير المكتوبة، وإنّ هناك حقائقَ لم تُكتب لسببٍ أو لآخر، فالعلوم كما نعرفها اليوم ليست مطلقة، وإنْ سيقت كل الدلائل على نطاق واسع تحت وَهمِِ العلوم غير القابلة للنقد، كأن يأتي رجل دين ويقول إن الإنسان لم يحط على سطح القمر، وإن الأرض نظام مغلق تعرج فيه الروح عبر سبع بوابات سماوية وضعت عليها حراسة ورصد، وهذا الطرح بالنسبة له حقيقة ثابتة، وبالتالي يوصف بأنه عدو للعلم لعدم توافق رأيه مع العلوم المادية، لكن المفكر العميق لا يستعبد كل الاحتمالات «ويفلتر» ويمحص أطر التفكير وقد يفكر خارجها جميعاً، ويتحدى أطروحة المسلمات ويشك في كل شيء، حتى في مضامين الشك نفسه.
لنمتلك مهارة التفكير العميق، يجب علينا إتقان مهارة التعبير عن أنفسنا في سياق الأسئلة ومن زوايا مختلفة، قد تكون غير مستساغة أو مألوفة، وعليه فإن التفكير العميق سيأخذنا إلى حل هذه المشكلة من خلال مسار مختلف تماماً، يقودنا إلى مسارات استكشافية لطرح الأسئلة الثاقبة، مما يجعل كل خطوة تبدو واضحة وبديهية للمفكر، وقد لا تكون كذلك، والتساؤل عما قد يحدث وصولاً إلى التوتر الإبداعي وهي الاستجابة الأكثر عفوية. وآلية التفكير غير المتدرب عليها هو التحرك في الاتجاه الأمامي، حيث يبدأ التفكير العميق عندما نقلل من تركيزنا على الإجابات ونتجه إلى إطلاق العنان نحو الأسئلة، والخروج بأنماط غير متماثلة في التفكير، من دون الحاجة الملحة للحصول على إجابة على الفور، لأن التعبير عن الأسئلة يعدّ مهارة دقيقةً جداً، وليست أقل دقة وأهمية من الإجابات.
لذلك، نمر في التفكير العميق بثلاث مراحل، هي: تفكيك المعرفة السابقة، والتبصر خارج الصندوق المعرفي المتعارف عليه، ومن ثم إعادة البناء. وهذا يتطلب تقسيم المشكلة أو التحدي إلى مكونات أبسط، وخلق حبكة أو سيناريوهات قد لا تخطر على البال، للنظر إلى المعضلة وتمثيل ذلك المشهد في الذهن وعدم التفكير في الوصول لحل، وإنما لربط النقاط والمعطيات والمؤشرات والبيانات والتبادل بينها، ونقطة الاعتمادية المتبادلة والالتقاء والافتراق والنظر خلف الحلول البديهية، أو ما تعلمنا أنه صحيح وواقعي، وإدراك أننا قد لا نصل إلى آلية مطلقاً بالطريقة التي نرغب بها وفق القالب المتعارف عليه، والوقوع في فخ الإقرار التلقائي، وعلة رفض صاحب التخصص للطرق غير المعتمدة لديه، خلف أسوار ماهية العقل الذي يتعدى الإدراك العام في تجليات خاصة.