خلال زيارته للعراق، كرر البابا فرنسيس موقفه المدافع عن التنوع الديني والإثني الذي كان العراق طيلة قرون طويلة مثالاً حياً له، وقد تعرض في السنوات الأخيرة لموجة عاتية من التطرف الراديكالي ذهب ضحيتها المكونان المسيحي والإيزيدي في المجتمع العراقي، مع استمرار الصراع الطائفي الإسلامي الداخلي الذي تغذيه الجماعات الراديكالية من الطرفين. 
لقد سمعت كثيراً من المثقفين والسياسيين العراقيين يتحدثون باستغراب شديد عن حالات التعصب والعدوانية في المجتمع العراقي الحالي، وبعضهم يذهب إلى حد القول إن الدولة العراقية المعاصرة كانت دولة مستبدةً، لكنها لم تكن يوماً طائفية أو معادية لدين أو مذهب. وقال لي مرة حسن العلوي، الكاتب العراقي البارز الذي كان مقرباً من الرئيس الأسبق صدام حسين، قبل أن يتحول معارضاً شرساً ضده: إن صدام كان «عادلاً» في قمع معارضيه من العراقيين دون تمييز طائفي أو ديني، بل إن «حزب البعث العربي الاشتراكي» الذي حكم العراق منذ نهاية الستينيات كان نموذجاً للتعايش والتضامن بين العراقيين على أساس أيديولوجي سياسي يتجاوز الانتماءات الدينية والمذهبية الضيقة.
هل نستنتج من التجربة العراقية التي لها حالات مماثلة في عدة بلدان عربية أخرى أن الأنظمة التسلطية أكثر قدرة على صون التنوع الديني والطائفي من الحكومات الديمقراطية التي تقوم على مبدأ التمثيل الانتخابي الحر، وما يقتضيه من منافسة على السلطة والقرار على أساس هوياتي ووفق معايير الاصطفاف والتصادم؟
قد يبدو السؤال غريباً، فمن المعروف أن الآليات الديمقراطية ظهرت في المجتمعات الأوروبية الحديثة في سياق متطلبات الخروج من الحرب الدينية الأهلية الطويلة، وما فرضته من الاعتراف بحالة التعددية والتنوع العقدي والفكري تحقيقاً للسلم الأهلي والاستقرار السياسي.
أما البلدان العربية التي مرت في السنوات الأخيرة بصدمة الانتقال السياسي واعتمدت النظام التمثيلي الانتخابي مسلكاً سياسياً، فقد عانت في مجملها من مأزق الصراع الأهلي والفتنة الداخلية، وبدت فيها الحلول الديمقراطية عاجزة عن تأمين السلم المدني الذي هو أفق الديمقراطية التعددية.
والواقع أن الأمر لا علاقة له بطبيعة الخيارات والنظم السياسية، بل ببناء الدولة وتركيبة الحقل العمومي في علاقته بالمجتمع الأهلي. فالدولة الديمقراطية في الغرب قبل أن تتبنى النظم التمثيلية الانتخابية حققت مطلب الاندماج الوطني، وبنت مؤسسات عمومية صلبة، وبلورت أطراً عقلانية بيروقراطية للنظام السياسي غدت هي المحددة لطبيعة الخيارات الدستورية والقانونية اللاحقة. فليس من الصحيح أن الفكرة الديمقراطية هي التي صاغت طبيعة النظام السياسي في الدول القومية الغربية، بل الصحيح أن الديمقراطية نفسها كانت نتاجاً تاريخياً طبيعياً للتحولات النوعية التي مرت بها الدولة في علاقتها بالمجتمع وفي وظائفها العملية والإدارية. 
وتتجلى هذه الحقيقة في كون الأفكار الأساسية التي تأسس عليها العقل السياسي الحديث برزت خارج وقبل النظم الديمقراطية، وأهمها مفهوم «السيادة» الذي هو الميزة الكبرى للدولة الحديثة في مقاربتها لهويتها الدستورية والقانونية وفي سمتها الشمولية الكلية، ومفهوم «التمثيل» الذي تشكل أولاً خارج القوالب الانتخابية ليعني قدرة الدولة من حيث هي جسم عمومي على التعبير عن الهوية المجتمعية المشتركة. كما أن مفهوم «الحالة المدنية» الذي طرحه فلاسفة الأنوار لحل المعضلة الدينية السياسية كان سابقاً على التجارب الديمقراطية المعاصرة، وإن كان شرطاً لفاعليتها ونجاعتها.
إن إدراك هذه المعطيات التاريخية ضروري لمقارنة تجارب الانتقال السياسي الناجحة في أوروبا والتجارب المتعثرة في عالمنا العربي. 
لقد نجحت الموجة الثانية من التحول الديمقراطي في جنوب أوروبا، والتي تمت في السبعينيات دون مصاعب نوعية (إسبانيا والبرتغال واليونان)، كما حدث الأمر خلال الموجة الثالثة التي مرت بها دول أوروبا الشرقية (الاشتراكية سابقاً) بعد نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينيات.. لأن عموم هذه البلدان باستثناء حالة المجال البلقاني الخاصة، مرت بنفس مسارات تشكل الدولة وبناء المجال العمومي التي مرت بها الديمقراطيات الغربية العتيدة.
أما في البلدان العربية فلا يزال مشروع بناء الدولة مطروحاً، والواقع أن الأنظمة الأيديولوجية الأحادية قوضت المكاسب التي حققتها التجارب السياسية الأولى التي تمت باحتضان القوى الاستعمارية السابقة، فأضعفت دوائر الاندماج الوطني، وأوهنت مؤسسات المجال العمومي، ومن ثم كان من الطبيعي أن تؤدي إجراءات الانفتاح السياسي المفاجئ وآليات المنافسة الانتخابية إلى تدمير السلم الأهلي، وتأجيج أنماط الصراع العقدي والعرقي. 
ولا شك في أن الحالة العراقية الراهنة هي المثال الأوضح على صحة هذه الملاحظة.