عندما كان البابا فرنسيس يقول إنه يرجو أن يتمكن من زيارة العراق، عمدتُ إلى إعادة قراءة وثيقة «الأخوّة الإنسانية» التي أصدرها مع شيخ الأزهر في 4 فبراير عام 2019، ووثيقة «كلنا إخوة» التي أصدرها في 4 أكتوبر عام 2020.
الأخوة هي القيمة الإنسانية العليا، مقرونةً بالضيافة وحُسْن الجوار، والوفاء بالعهود وصنع الأصدقاء والمحبين، والثقة بخيرية الإنسان، هي السمات الأبرز لشخصية إبراهيم أبي الأنبياء بحسب التوراة والقرآن الكريم. وهي الخِلال والسِمات الأضحوية التي يمضي بها البابا إلى العراق وأور مسقط رأس إبراهيم وموطنه الأول. يترحل البابا فرنسيس مثلما ترحَّل قديسه المحب فرنسيس الأسيزي، لأن تلك السِمات هي سِمات نضال من أجل خير الإنسان وسلامه، اللذين لا يتحقّقان إلا بهذا الجهاد للإحقاق والتحقيق. هل صارت هذه الشخصيات وهذه الصفات نماذج نادرة؟ البابا يعتقد أنّ كل البشر بالفطرة وبحسن النية وبالنضال يستطيعون الوصولَ إلى مرتبة الأخوة ومقتضياتها.
القديس فرنسيس الأسيزي الذي تسمّى البابا باسمه، مضى مستمداً من الضعف قوةً من إيطاليا إلى القدس فإلى مصر، ليلتقي بالمسلمين المحسوبين أعداءً آنذاك، طامحاً بالإيمان إلى تحويل أولئك الآخرين إلى أصدقاء وإخوة. والبابا فرنسيس المتمسك بعهد إبراهيم وهو يزور ديار أبي الأنبياء المتعبة، يحمل نفس القيم ونفس الرجاء الذي حمله سميُّه، وحمله قبله جدنا الأعلى إبراهيم لإمكانيات خط الهداية هذا، يحدوه الأمل نفسه، وتحدوه الثقة نفسها في نشر السلام والرجاء بين بني البشر. وهؤلاء ليسوا أيَّ بشر، بل هم الأكثر تعباً والأكثر حاجةً إلى اليد الحانية، وإلى الكلمة الطيبة وإلى العودة للاستمتاع بسلام البشر وكرامتهم. 
وبهذا الانتساب العريق إلى عهد إنسانية الإنسان، يمضي البابا إلى مؤمنين مثله، راعهم ما راعه من مُعاناةٍ ويحدوهم ما حداه من رجاء. وهي المعاناة التي تلاقى في غياهبها المسيحي مع المسلم بالعراق. ولا شكّ في أنّ تلك القلة الصالحة من مسيحيي العراق ومن أزيدييه هي الأكثر افتقاراً إلى هذا الحنو وإلى هذا التضامُن في هذا الشرق المعذَّب، شرق الديانات، وشرق الحضارات، وشرق العذاب الذي تنضج فيه إنسانية الإنسان. وخطاب البابا فرنسيس إلى مسيحيي العراق ومسلميه هو ما قاله في نداء «كلنا إخوة»: «إما أن نعيش جميعاً أو نهلك جميعاً»، لكنّ الهلاك جرى تجاوزه وما بقي غير الخيار الآخر: خيار العيش الكريم والحر والمشترك والمتآخي. 
إبراهيم أبو الأنبياء في شخصيته القرآنية هو نموذج الإيمان بالخلاص في ظل رحمة الله والاقتناع بعنايته، وبرحابة هذا العالم على الذين يريدون ويعملون للعيش معاً، وضيقه على الذين يتقصدون التنازع والصراع والإقصاء. 
البابا فرنسيس يريد للمسيحيين أن يبقوا بالعراق وبسوريا وبفلسطين ولبنان ومصر، فهي ديارٌ ومواطن صنعت انتماءها في هذا العيش المتعدد، الذي كان وينبغي أن يبقى، أو يتهدد الأمن الإنساني والانتماء الوطني. جاء في القرآن الكريم: «أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف». الكفاية والأمن متلازمان، وهما معاً يصنعان إنسانية الإنسان التي لا تتحقق إلاّ بالإيلاف والائتلاف. 
البابا فرنسيس يعرف، والعراقيون يعرفون ونحن جميعاً نعرف أنّ في العراق العزيز شخصيات كثيرة هي ركائز لهذه الإنسانية الوادعة والواعدة. كما عانى آية الله السيستاني لكي يسلم العراق بلداً وإنساناً. وكم عانى الكاردينال ساكو وناضل لكي يسلم المسيحيون بالعراق ويبقوا في أرضهم ودينهم وتراثهم وإنسانهم وانتمائهم الوطني. وعندما يمضي البابا فرنسيس ليشدّ على أيديهم، ويشحذ عزائمهم، فإنه يحمل معه مواريث إبراهيم وعهده، ومواريث المسيح ومحبته، ومواريث فرنسيس الأسيزي ورسالته في التلاقي على الخير والوداعة والمودة.
لقد سُميت بغداد عند إنشائها «دار السلام». ويأتي البابا إليها وإلى النجف والموصل وسهل نينوى ليبشر بعودة السلام إلى أرض ما بين النهرين، أرض الحضارة والسلام. فطوبى لصُنّاع السلام.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية