بعد ستة أسابيع من الصمت، خرج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من مقر إقامته في ولاية فلوريدا، من أجل إلقاء الخطاب الرئيسي يوم الثامن والعشرين من فبراير المنصرم، في «مؤتمر العمل السياسي المحافظ» السنوي (أو «سيباك» اختصاراً). و«سيباك» عبارة عن تجمع يضم نشطاء يمينيين ومسؤولين منتخبين يناقشون فيه أجندات الولايات المتحدة والحزب الجمهوري المحافظة. وقد شكّل ظهور ترامب أبرز فقرات هذه الفعالية التي دامت ثلاثة أيام. وفي خطابه، تحدث ترامب بإسهاب حول كل المواضيع التي ظل يشدد عليها طيلة فترة رئاسته في البيت الأبيض، بما في ذلك مرحلة ما بعد الانتخابات بعد أن خسر الرئاسة أمام جو بايدن. وكان خطابه عبارة عن خليط من التفاخر والشكوى والإصرار على أنه فاز في الانتخابات الأخيرة، ورغبة قوية في الانتقام من أولئك «الجمهوريين» الذين صوّتوا لصالح عزله الثاني، أو صوّتوا لصالح مسؤوليته عن أحداث 6 يناير في المحاكمة التي أقامها مجلس الشيوخ. 
كان ترامب الرجل نفسه الذي استحوذ على اهتمام البلاد والعالم خلال السنوات الأربع الماضية: متعجرفاً، نكداً، لا يبدي ندماً، ويسعى للانتقام. لم يُشر إلى الموت المفجع لمواطنين بسبب فيروس «كوفيد-19»، ولم يعبّر عن التعاطف مع ملايين الأميركيين الذين عانوا من تداعياته الاقتصادية. غير أنه بالمقابل سعى إلى التبجح بأن الفضل في التطوير السريع لعدة لقاحات ضد الفيروس، إنما يعود إلى الجهود التي بذلتها إدارته. والحال أنه إذا كان صحيحاً أن وصول اللقاحات كان إنجازاً يحسب لإدارة ترامب، فإن غياب خطة منسجمة لتوزيع تلك اللقاحات على مئات الملايين من الأميركيين كان أحد أكبر المشاكل التي واجهها فريق بايدن عندما تولى المنصب في العشرين من يناير الماضي. 
وخلال خطابه الطويل، ركّز ترامب مراراً وتكراراً على اعتقاده بأن الانتخابات سُرقت من قبل «الديمقراطيين»، وبأنه هو الفائز الحقيقي وليس بايدن. فمعظم أنصاره ما زالوا يصدّقون هذه الأسطورة، وقد كان ذلك عاملاً مساعداً ساهم في تغذية مشاعر الغضب التي أفضت إلى الهجوم الذي شنّه أنصار ترامب على مقر الكونجرس في السادس من يناير 2021. واللافت هنا أن ترامب لم يعترف في أي مرحلة من مراحل خطابه بتأثير الشغب ومسؤوليته عن التشجيع عليه. وبدلاً من ذلك، ذكر أسماء أولئك الجمهوريين الذين صوّتوا ضده في عزله الثاني. وكان كل اسم من تلك الأسماء يُستقبل بالتصفير وأصوات الاستهجان من قبل أنصاره. وكان غضب ترامب حاداً بشكل خاص في التنديد بـ«ليز تشيني»، التي تعد ثالث أبرز قيادية في الحزب الجمهوري داخل مجلس النواب. 
وبالنسبة للحزب الجمهوري، شكّل ظهور ترامب في مؤتمر «سيباك» نعمةً ونقمةً في الوقت نفسه. فمن جهة، أكد ترامب أنه لا ينوي تأسيس حزب ثالث من أجل تحدي المؤسسة الجمهورية. وغني عن البيان هنا أن من شأن حزب ثالث أن يمثّل سيناريو كارثياً بالنسبة للجمهوريين، نظراً لأنه سيفضي إلى تقسيم الأصوات المحافظة وضمان احتفاظ «الديمقراطيين» بالسيطرة على البيت الأبيض وفرعي الكونجرس. لكن من جهة ثانية، يضمن بقاء ترامب في الحزب الجمهوري أنه سيكون زعيمه. وهذا يجعل من الصعب جداً على أي أحد أن يتحدّاه وينافسه على الزعامة، اللهم إلا إذا كان هو نفسه يدعم خلفاً له، في حال قرر عدم الترشح من جديد للانتخابات الرئاسية في عام 2024. 
لكن بالنسبة للعديد من الجمهوريين المعتدلين، يمثّل استمرار هيمنة ترامب على الحزب وصفةً للفشل. ذلك أن ترامب لم تكن لديه أي رسالة للحزب تتضمَّن أجندةً سياسية جادة لتحدي الديمقراطيين، في ما عدا مواصلة التأكيد على أن النظام الانتخابي فاسد ويجب إصلاحه عبر تبني إجراءات أكثر صرامة للقضاء على التزوير الانتخابي. 
مايكل جرسون، كاتب خطابات الرئيس جورج دبليو بوش السابق، والذي يحظى بالتقدير والاحترام، كتب في صحيفة «واشنطن بوست» عقب مؤتمر «سيباك» يقول: «لقد أعاد الحزبُ تموضعه بسرعة ليصبح أداة لاحتجاج البيض وتظلّمهم. فهو يرفض التنديد بالعنصريين داخل صفوفه، ويبدو أن أجندته التشريعية الرئيسية اختُزلت في كبح تصويت الأقليات».
والواقع أن آراء جرسون يتقاسمها الكثيرون ممن يرون أن التركيز على تظلمات البيض إنما يضمن خسارة كثير من الأصوات المستقلة، التي تُعد أساسية إذا كان الحزب يرغب في استعادة السلطة.