عندما أسس مارك زوكربيرج فيسبوك في عام 2004 لم يكن أحد يتخيل المدى الذي سيصل إليه تأثير هذا النوع من الشركات، فخلال 10 سنوات فقط تمدد موقع فيسبوك من شبكة داخلية خاصة بجامعة هارفارد إلى غيرها من جامعات بوسطن، ثم كافة الجامعات والمدارس، ليشمل لاحقاً كل من تجاوز عمره 13 عاماً ويصل عدد مستخدميه في نهاية 2020 إلى 2.24 مليار مستخدم. وبغض النظر عما قدمته شركة فيسبوك من خدمات التواصل الاجتماعي التي اجتذبت هذا العدد الهائل من المشاركين، فإن البداية في توظيف هذا النجاح كانت هادفة إلى الربح، وهو ما تحقق بنجاح هائل عبر توظيف بيانات مستخدمي الموقع في معرفة ميولهم ومن ثم تسهيل تسويق السلع والخدمات المتسقة مع هذه الميول من خلال الشركات المنتجة للسلع والمؤسسات المقدمة للخدمات، والتي تدفع الكثير للحصول على هذه البيانات من أجل تنشيط أعمالها. وهذا ما مكن فيسبوك، وغيرها من شركات التواصل الاجتماعي، من تقديم خدمات مجانية مغرية لمشاركيها كخدمات الاتصال التليفوني المجاني.
غير أنه مع النجاح الهائل لموقع فيسبوك، وغيره من المواقع، بدأت الآثار الاجتماعية والسياسية لهذا التطور تظهر بوضوح، وتهتم هذه المقالة بالآثار السياسية، فقد أصبحت هذه المواقع ساحة رحبة لنشر الأحداث والأفكار والحوار حولها، مما جعل وظائفها تمتد إلى الدعوة لأفكار بعينها، بما في ذلك الأفكار المتطرفة، وطرح وجهات نظر مختلفة بشأن التطورات السياسية التي تمس حياة الناس، مما جعل مواقع التواصل الاجتماعي أشبه بمعامل لتخليق الرأي العام، وهو تطور لم يكن بالضرورة مُنَزهاً عن الأهداف السياسية، ووصل الأمر في حالات كثيرة إلى نشر أفكار متطرفة تسوغ استخدام العنف، أو تروج للعنصرية، أو تحرض على التمرد والثورة ضد نظم بعينها، مما دعا هذه النظم لفرض قيود عليها. وبسبب قوة تأثير هذه المواقع، فقد بدا أنها قد تحولت إلى «فاعل سياسي» مستقل، سواء على الصعيد الداخلي عندما يطول تأثيرها العمليات السياسية الداخلية كالانتخابات أو التحريض السياسي، أو حتى كفاعل ذي تأثير دولي كما حدث عندما تكشفت في 2017 عملية استخدام شركة «كامبريدج أناليتيكا» لبيانات المشاركين في الدعاية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي.
ومن هنا بدأت فكرة فرض قيود ما على محتوى ما تنشره هذه المواقع. وفي البداية لم تُثِر هذه الفكرة مشكلات تُذكر، فقد فُرِضت القيود على المحتوى الذي يشجع على التطرف والعنف أو ينطوي على أفكار عنصرية، لكننا نعلم غياب الاتفاق على المفاهيم، وعليه ثارت اتهامات من حين لآخر بحق شركات التواصل الاجتماعي بتحيزات سياسية واجتماعية، وعادت شركة «كامبريدج أناليتيكا» مجدداً إلى الواجهة عندما انكشفت في أوائل 2018 عملية استخدامها لبيانات ملايين المشاركين في موقع فيسبوك دون موافقتهم في الدعاية لدونالد ترامب في حملته الانتخابية عام 2016. وكانت صحيفة «الجارديان» قد أثارت نفس المسألة بالنسبة لدور الشركة في الحملة الانتخابية للسناتور الأميركي تيد كروز، غير أن شركة فيسبوك تجاهلت المسألة آنذاك، لكن الأمر اختلف جذرياً عندما ارتبط برئيس أقوى دولة في العالم، فحدث هبوط كبير في سعر أسهم الشركة، وطالب كثيرون بتنظيم أكثر صرامة لاستخدام شركات التواصل الاجتماعي للبيانات الشخصية. واكتسبت المسألة بعداً جديداً عندما قررت شركة «تويتر» في يناير الماضي حظر استخدام ترامب لموقع تويتر الذي كان الأداة الرئيسية لاتصاله بمؤيديه، وعلق رئيس الشركة بقوله: «قرار صحيح، لكنه سابقة خطيرة» في إشارة ثاقبة لمعضلة التوازن بين الحرية وضوابطها.