مؤخراً خرج علينا زعيم حركة «النهضة» الإخوانية في تونس بمبادرتين مثيرتين: أولاهما داخلية بالدعوة إلى استبدال النظام الدستوري الحالي بنظام برلماني كامل لا يتمتع فيه رئيس الجمهورية بأي صلاحيات تنفيذية، وثانيتهما إقليمية بالمطالبة بتشكيل اتحاد جديد للمغرب العربي لا يضم المملكة المغربية وموريتانيا. 
المبادرة الأولى تعكس المأزق السياسي المتفاقم الذي تعاني منه حركة «النهضة» التي تقلص حضورها البرلماني من 89 مقعداً في انتخابات 2011 إلى 52 مقعداً في انتخابات 2019. ومع أن الغنوشي استطاع انتزاع رئاسة البرلمان من خلال تحالف مصلحي مع بعض التشكيلات الحليفة ومع حزب «قلب تونس» الذي كان ينعته بالفساد والانتهازية، إلا أن مركزه مهدد حالياً بالتصويت البرلماني القاضي بسحب الثقة منه، في ظل موجة امتعاض متزايدة من أدائه على رأس المؤسسة التشريعية التي حولها إلى محور لنظام الحكم.
والواقع أن الغنوشي الذي يواجه في الآن نفسه حركة تمرد جلية داخل صفوف حزبه، لم يخف يوماً طموحه لحكم تونس، وإن كان مدرِكاً صعوبةَ الوصول إلى السلطة في انتخابات رئاسية مباشرة. ومن هنا تبلورت استراتيجية زعيم حركة «النهضة» في تبني نظام شبه برلماني يسمح له بالتحكم في التحالفات الحكومية، وصولاً إلى محطة السيطرة الكلية على دفة السلطة. 
وإذا كان قد اضطر في عهد الرئيس السابق الباجي قايد السبسي إلى قبول تقاسم شؤون الحكم مع خصومه من التيار الليبرالي الدستوري، فإن إخفاق تجربة ائتلاف «نداء تونس» بعد رحيل مؤسسه فتح له فرصة جديدة اغتنمها بالسيطرة على البرلمان، بما مكّنه من محاولة إقصاء رئيس الجمهورية المنتخب وإضعاف رئيس الحكومة المسؤول أمام المجلس النيابي.
ومع أن المعطيات الموضوعية تؤكد فشل النظام شبه البرلماني في تونس، والذي يكاد يجمع الفقهاء الدستوريين على أنه لا يتلاءم مع المجتمعات السياسية الهشة التي لا توجد فيها حياة حزبية حقيقية وتوازنات فكرية إيديولوجية ناظمة، فإن الغنوشي طرح مؤخراً فكرة الانتقال إلى نظام برلماني، سيكون من شأنه في حال اعتماده تعقيد الأزمة السياسية الداخلية القائمة وتعريض البلاد لمزيد من الاحتقان والاضطراب الاجتماعي. 
أما مبادرة إعادة تشكيل اتحاد المغرب العربي بالاقتصار على تونس والجزائر وليبيا، فتبدو بوضوح من المغامرات المثيرة التي عودنا عليها الغنوشي الذي لا يخفي طموحه لأداء دور فاعل في الساحة الليبية من خلال تحالفه مع الاتجاهات الإخوانية ومع تركيا، في الوقت الذي يسعى جاهداً للتقرب من السلطات الجزائرية الجديدة. 
ما ترمي إليه هذه المبادرة، هو نسف مشروع البناء المغاربي الذي شكّل تاريخياً أفق الحركات الإصلاحية الكبرى في شمال إفريقيا، من دولة المرابطين في القرن الخامس الهجري إلى تيارات التحرر الوطني المعاصرة التي طرحت أول تصور حديث لمشروع تكتل بلدان المغرب العربي في مؤتمر طنجة الشهير في أبريل 1958.
إن مفهوم المغرب الكبير الموحد، كما بلوره زعماء الحركة الإصلاحية وبناة الدولة الحديثة في المنطقة، يتمحور حول المجالات الحضارية التاريخية الكبرى التي يتوزع إليها هذا الإقليم، وهي حسب تسميات المؤرخين الأقدمين: المغرب الأدنى (خط طرابلس- القيروان - تونس) والمغرب الأوسط (خط قسطنطينة- الجزائر- تلمسان) والمغرب الأقصى (خط فاس- مراكش - بلاد شنقيط). إن هذه الخلفية هي التي كانت حاضرة لدى مؤسسي اتحاد المغرب العربي من زعماء الدول الخمس الذين أعلنوا في مراكش عام 1989 إنشاء التكتل الجامع بين بلدانهم. 
صحيح أن اتحاد المغرب العربي تعثر بعد السنوات الأولى من انطلاقته لأسباب معروفة ليس هنا مجال التعرض لها، لكن الإجماع قائم بين نخب المنطقة على الاحتفاظ بهذا المشروع أفقاً لا محيد عنه لبناء المستقبل ومواجهة التحديات العالمية القادمة.
ولقد شكل الطموح المغاربي أحد المرتكزات الأساسية في الخطاب السياسي التونسي منذ مرحلة حركة التحرير الوطني وبناء الدولة في العهد البورقيبي والمرحلة التالية. وكان بورقيبة يردد دوماً أن الانتماء المغاربي بالنسبة لتونس ليس مجرد خيار سياسي أو استراتيجي، بل ضرورة وجودية، لأن تونس على عكس شركائها في شمال إفريقيا، ليس لها مجال حيوي خارج محيطها المباشر في المغرب العربي.
إن مبادرة الغنوشي لنسف المشروع الاندماجي المغاربي تشكل من هذا المنظور خروجاً عن إحدى الثوابت الكبرى في الخطاب السياسي التونسي، وهي في نهاية المطاف تكريس لنفس النزعة الرامية إلى تأجيج حالة الفوضى والاحتقان التي توقفنا عند بعض محدداتها الداخلية.