طبيعة الحياة تحتم على الإنسانية تبادل التأثير والتأثر، ويتشكل وعي الإنسان كوعي بالذات وبالكون من خلال الأحداث التي يمر بها عبر مراحل يلعب فيها اللاوعي دوراً محورياً. وعندما نتحدث عن وعي العقل الخليجي بين التوفيق والمجاراة والاندماج، والفصل بين الموروث العقائدي والاجتماعي والثقافي والفكري، وما هو حاصل في الواقع ومؤشرات ما سيحدث في المستقبل، نرى أن ما يغلب عليه هو الضبابية المفاهيمية بفضل التشويه المتعمد وغير المتعمد لما يدور حوله في عالم اليوم، ودوره في هذا العالم ما بين تلوث قيمي حاد ونسخ فكري رتيب وممل، حيث يعاب على فئة كبيرة من المتعلمين - وذلك ما بين مثقفين وغير مثقفين - العجز التراكمي في تحقيق السبق المعرفي، وإحداث الفارق من خلال وعي له قيم مضافة للبشرية على العموم.
فالعقل الخليجي في حيرة حضارية تتمثل في نقل الماضي بحلة حديثة وجعله من ثوابت الحاضر. ولم يعد للعديد من المفكرين الخليجيين في حياتهم بديهيات يقينية أو مقدمات صادقة لتُبنى عليها تصورات ورؤى وأحكام، تتجاوز الوعي الشكلي والتعايش المكرهين عليه، مع ما يطرحه الغرب والشرق أو انبهار كامل وتبني تلقائي له، وجزء آخر منهم يرفضه بصورة جزئية أو كلية، وقس على ذلك سائر أفراد المجتمع، والتحدي الأكبر هو غياب البدائل الخليجية، والتوجه العام أن تصبح الدول الخليجية تُصدر الأفكار الكبرى والاختراعات المؤثرة على البشرية كبديل للثروات الطبيعية.
وتعد مسألة مناقشة قضايا الواقع الخليجي بعدسات غير خليجية في محاولة لاستيعاب ما يجري حولهم من تطورات متسارعة، تسونامي عقلي يضرب بشدة عمق الهوية والطابع العام للثقافة والسلوك بين الرأي العام القائد والمنقاد. وعندما تكون الحلول محتكرة من النخب دون مشاركة من الجماهير تكون غير شاملة بالضرورة لجوانب تلمس الشارع وعقلية الشارع. والمزاج العام الخليجي والثقافة الخليجية لم تعد من نتاج أبنائها، بل في الغالب محاكاة رخيصة ورديئة لأفكار الغير وثقافاتهم والمنهجية العقلية التي يتبعونها. والخط الفاصل بين الثابت والمتحول لم يعد قيمة مرجعية لغياب الضابط المعرفي، وترديد المصطلحات الكبرى دون إدراك تام بمضامينها الخفية ومعانيها الخاصة، ورمي جميع الأخطاء على شماعة الغزو الفكري والعطب، الذي أصاب العقل الخليجي للقيام بدور حقيقي في الحضارة المعاصرة، والتركيز على النتيجة النهائية وإبهار الظاهر على الرغم من ضعف التأسيس للبنية التحتية المعرفية ومحدوديتها، وذلك لكون خبايا المعرفة التنافسية من أسرار تقدم الأمم ومصدر قوة حيوي لها لا تفرّط فيه بأي ثمن.
ومن جهة أخرى، تُعد قضية الحرية تحدياً جوهرياً لتقدم العقل الخليجي، وأهمية الفصل بين مفهومي الوعي والحرية وحرية الإرادة، حيث لا يوجد وعي بلا حرية والعكس صحيح. والحرية لا تختصر في المساواة بين الجنسين مؤسسياً فقط، ولا تعني غياب الوعي عن التدني في تربية الأجيال والانحطاط الأسري والأخلاقي. ولا تجوز المتاجرة بالفصل بين الحرية والوعي، والحرية حق مطلق نعم ولكن بضوابط وقيود. فلا نعتبر على سبيل المثال ازدراء الأديان حرية فكرية لمهاجمتها وعي الآخرين قبل معتقداتهم، ولذلك تُخرّج الجامعات في الغالب طلبة لديهم حرية الإبداع ضمن ما هو محدد لهم كمنطلق لا يخرجون عنه، ولكن لم يتم تدريبهم كيف يصبح لديهم وعي ذكي ومدرك يساهم في إدارة عدم اليقين، والتقليل من الاتكالية والاعتمادية ضمن نقاط فردية يؤدي فشلها لشلل في المنظومة ككل، ناهيك عن وجود شق كبير في جدار الوعي الخليجي والمتمثل في رفض الأجيال الحديثة وعي الأجيال الأخرى، وعزوفهم عن الهوية الخليجية التقليدية، والكثير منهم يبحثون عن متنفس ووعي خاص بهم بعيداً عن وعي التراث والتجديد، ومحدوديتهم في استيعاب وعي أكثر شمولية وإنسانية، وهذا يحتاج لدوائر وعي ذات أبعاد مرئية وغير مرئية.