في أحد أحاديثه التلفزية المشاهدة على نطاق واسع في فرنسا، ذهب الإعلامي المشاكس «إريك زمور» المعروف بخصوماته مع الجاليات العربية المسلمة في بلاده، إلى القول بأن العالم الجنوبي بامتداداته في أوروبا والولايات المتحدة (المهاجرون وأبناؤهم المواطنون والمتجنسون) يعرف حالياً موجة شرسة من العداء للمركزية الغربية، معتبراً أن أصولها ترجع إلى كتاب إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» الصادر سنة 1978. ومن هذا المنظور يفسر زمور الديناميكية التي أطلقتها الانتفاضة السوداء في الشارع الأميركي بعد حادثة موت «جورج فلويد»، والحركة الاحتجاجية ضد فكرة التجانس الجمهوري في فرنسا، والجدل الحالي الذي واكب صراع الذاكرة بين فرنسا والجزائر حول الإرث الاستعماري.
وإذا كان من الخطأ ربط فكرة «الاستقلال التاريخي للذات الثقافية» (حسب عبارة الفيلسوف الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي) بادوارد سعيد، إلا أنه مما لا شك فيه أن كتابه «الاستشراق» كان لحظة تأسيسية نوعية في الاتجاه الذي عرف من بعد بالدراسات ما بعد الكولونيالية.
ويتعين هنا التمييز بين الخطاب السياسي النقدي للهيمنة الاستعمارية، والذي هو جزء من استراتيجية المقاومة الشاملة للاحتلال والهيمنة الخارجية، وبين فكر ما بعد الكولونيالية الذي تبلور أساساً في الحقل الأكاديمي، خصوصاً في الجامعات الأميركية، وكان من أبرز رموزه سعيد وعدد من المفكرين الهنود، من أهمهم المؤرخ «دبش شاكارابرتي» والناقدة الأدبية «غاياتري سبيفاك».
لقد انطلق هذا الاتجاه من أصول فلسفية ونظرية غربية ترجع أساساً إلى الفيلسوفين الفرنسيين ميشال فوكو وجاك دريدا وإلى مدرسة فرانكفورت الألمانية، وقد تمحور فكرهم حول ثلاث أطروحات أساسية هي:
- الربط العضوي بين حقل إنتاج المعارف المرتبط بالآخر المخالف، واستراتيجيات التسلط والهيمنة، بحيث يبدو الخطاب نفسه أداة رئيسية للإقصاء وبسط السيطرة والغلبة. ولا يتعلق الأمر هنا بالخطاب السياسي المباشر الذي واكب الموجة الاستعمارية الأولى في رفعه شعار «حمل المدنية والحضارة» إلى «الشعوب البدائية أو المتخلفة»، بل بخطاب علمي وإنتاج أدبي يتدثر بالموضوعية العلمية وينشد الكونية، في حين أنه يقوم على المركزية الضيقة والإلغاء الصامت الخفي. ومن هنا عنوان كتاب إدوارد سعيد الخلفي «الشرق كما صنعه الغرب».
- الانطلاق من تعددية المعنى والقيم ورفض كل البناءات المسلحة التي يستند إليها الخطاب الإنساني الكوني الغربي، من معايير الموضوعية العلمية الشاملة التي تدحضها الإبستمولوجيات اللايقينية، والتصورات العقلانية التاريخانية التي ترى في الحداثة الأوروبية نهاية مسار الإنسانية على الطريقة الهيغلية، والمقاييس الليبرالية الديمقراطية التي هي نمط من الاستبداد الخفي والترويض الجسدي والعقلي غير المرئي.
- البحث عن سرديات جديدة خارج المركز الغربي تعيد الاعتبار للوجوه المهمشة والمقصية في التقليد الغربي، مثل اللاجئ عديم المواطنة، والمتنقل المتوحش، والمرأة المغيبة. 
وليس من همنا إفاضة القول في هذه الأدبيات التي ما تزال إلى حد بعيد غير معروفة للقارئ العربي، باستثناء كتاب إدوارد سعيد الشهير الذي ترجم مبكراً إلى اللغة العربية واحتُفي به على نطاق واسع باعتباره رداً على تشويهات المستشرقين للحضارة الإسلامية. والحال أنه لا يتعرض في الجوهر لكتابات المستشرقين وأحكامهم حول الإسلام والمجتمعات المسلمة، وإنما لصورة الشرقي في المخيال الأوروبي كما تعكسها الأعمال الإبداعية والكتابات السيارة المشاعة.
إن ما نريد أن نبيّنه هنا هو أن خطاب ما بعد الكولونيالية يمكن أن يوظف في اتجاهين متمايزين، إما أن ينجرف في صراع عقيم لا معنى له مع الحضارة الغربية، كما هو الشأن في كتابات عبد الوهاب المسيري ومن سار على نهجه من الأيديولوجيين الإسلاميين، وإما أن ينظر إليه في إطار التحولات النقدية الكبرى التي شهدتها الدراسات الفلسفية والإنسانية في العقود الأخيرة بما لها من أثر على المناهج التاريخية والرؤى الإبستمولوجية والمقاربات القانونية والسياسية.. 
ومن الواضح أن الخطاب الشعبوي اليميني الصاعد حالياً في الديمقراطيات الغربية، والذي يمثله إريك زمور نفسه، يستشعر خطر الفكر النقدي ما بعد الكولونيالي الذي ينطلق من نفس المرجعيات النظرية والقيمية للتنوير الحداثي الأوروبي، لكنه يتميز بسعيه لفك ارتباط هذه المرجعية الحداثية المشتركة بالمركزية الضيقة الغربية، مستلهماً أعمال الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين أنفسهم، الذين دشنوا مسلك النقد التفكيكي للكونية الأوروبية.
ليس الغرب بهذا المعنى خصماً للشرق أو للمسلمين، وليس المطروح هو خوض صراع بين مركزيات متصادمة، ومن الخطأ السقوط في فخ الاتجاهات العنصرية الشعبوية، بل المطلوب هو اعتماد معايير الكونية الإنسانية المتقاسمة أفقاً لتحالف عالمي ضد الهيمنة والتوحش والراديكالية.