في ما وراء النقاش القانوني والسياسي حول محاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الرامية إلى عزله بعد خروجه عملياً من السلطة منذ ثلاثة أسابيع، ظهر نقاش فكري أخلاقي حول حدود ودلالة حصانة رئيس السلطة التنفيذية وأثرها على سلوكه السياسي. 
ليس الموضوع خاصاً بالولايات المتحدة، ففي فرنسا يحاكم اليوم رئيس سابق هو نيكولا ساركوزي، بعد إدانة الرئيس الراحل جاك شيراك من قبل، إثر خروجه من السلطة، في حين يتعرض رئيسا حكومة سابقين للمساءلة (ادوارد بالادير وفرانسوا فيون) في تهم يغلب جانبها الأخلاقي على طابعها القانوني.
وفي بلدان غير غربية، نلاحظ السيناريو نفسه، نشير من بينها إلى حالة الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز الذي تجري متابعته في اتهامات مالية ترجع لفترة حكمه، بما جر نقاشاً قانونياً حول شرعية مساءلته من منظور الحصانة التي يخولها له الدستور في فترة رئاسته، مع بروز شبه إجماع على أن هذه الحصانة محصورة في الصلاحيات الممنوحة له خلال توليه المسؤولية. 
وبغض النظر عن حالات كثيرة مماثلة عرفها عالمنا العربي في فترات تغير أنظمة الحكم حيث تلتبس غالباً الحسابات السياسية بالملفات القانونية، فإن السؤال المطروح يظل دوماً هو: ما هي الاعتبارات الأخلاقية المحدِّدة للمساءلة القانونية لرؤساء الدول والحكومات بعد انتهاء فترات حكمهم؟
طرح هذا السؤال الفيلسوف الأميركي «مايكل بلانك» في تعليقه على محاكمة الكونغرس الحالية للرئيس السابق دونالد ترامب، مبيناً أن معايير المساءلة القانونية تتمحور حول ثلاثة أهداف هي: العقوبة الرادعة التي تمنع تكرار الجريمة والتجاوزات، وتعويض المجتمع عن الخلل الذي مس نظامه وحقوقه، وتحديد الحواجز الأخلاقية الموضوعية التي لا يجوز للحاكم في نظام ديمقراطي تخطيها. 
وبخصوص حالة ترامب الحالية، لا يستهدف مطلب الإدانة بالتنحية الردع الاستباقي أو التعويض الإلزامي وإنما العقوبة الأخلاقية التي تدخل في صلب المقاربة القيمية للقيادة السياسية. إن بلانك يثير هنا النقاش الفلسفي التقليدي حول خطوط التمايز بين المخالفة الأخلاقية والجريمة القانونية، من حيث كون النظام القانوني لا يتدخل في اعتبارات الفضيلة والضمير التي هي خلفية الفعل الأخلاقي وإنما يتركز حول المحددات الصورية للحقوق والالتزامات بما لها من أثر على تماسك المجتمع وتوازنه العادل.
وليس من شأننا حسم النقاش حول المصادر الأخلاقية للنظم القانونية، وهو موضوع أثار جدلاً واسعاً بين فلاسفة القانون الذين توزعوا إلى اتجاهات ثلاث: تأسيس الضوابط القانونية على معايير الحق الطبيعي التي هي معايير أخلاقية كونية، واعتماد مقاربة وضعية ذاتية للقوانين ضمن محددات العقل القانوني المستقل، وربط المدونات القانونية بالمرجعية السيادية الأخلاقية للدول دون سقف أخلاقي أو عقلاني سابق. 
وإذا كان قد أصبح من البديهي اليوم أن القوانين انفصلت عملياً عن الشرائع الدينية والفلسفات الأخلاقية وأصبحت تبني شرعيتها على المرجعية السيادية العمومية، فإنه من الجلي أنها لم تتخلص من خلفياتها الأخلاقية بما يظهر جلياً في ظاهرتين أساسيتين هما الجدل حول نظام الأولوية بين مدونة حقوق الإنسان الكونية المؤسسة على الأخلاقيات الطبيعية والقوانين السيادية للدول، والجدل الذي ولّدته الثورة التقنية الراهنة حول مقتضيات حماية الكرامة الإنسانية في مواجهة حركية تداخل الطبيعي والإنساني في الاكتشافات العلمية الجديدة. 
وبالرجوع إلى محاكمات الرؤساء السابقين، يطرح الموضوع الأخلاقي هنا في بعدين أساسيين، هما من جهة مركزية الوظيفة الرئاسية في النظام المؤسسي للدولة بما يخولها الرمزية الأخلاقية السامية التي تجمع بين القوة التنفيذية الحاسمة والتعالي عن المساءلة إلا في حدود قصوى استثنائية، ومن جهة أخرى حقوق ومصالح المجتمع التي تظل في أي منظومة ديمقراطية هي المرجعية الأساسية للحكم وللسلطة التفويضية المؤقتة للرئيس المنتخب.
ومن هنا نلاحظ كيف أن غالبية الاتهامات الموجهة للرؤساء السابقين تدور حول الاعتبارات الأخلاقية وليس الجرائم القانونية بالمعنى التقني المألوف، والتي يحاسب عليها المسؤولون التنفيذيون من الدرجات الدنيا. إلا أن الحصانة الممنوحة للرؤساء لا يمكنها أن تكون درعاً يحميهم من المتابعة القانونية في حال تجاوزهم للخطوط الحمراء الأخلاقية التي تتطلبها المسؤولية الرمزية والمعنوية لمقامهم القيادي.
ومن المؤكد أن المحاكمة الحالية للرئيس الأميركي السابق ترامب لن تفضي إلى أي نتيجة، ولن تقلص حجم شعبيته في وسطه الحزبي، ولعلها لن تكون أكثر من مناورة سياسية غير مجدية.. إلا أنها تعبر عن الجدل الأخلاقي والقانوني المطروح بخصوص أزمة المؤسسات الدستورية في الديمقراطيات الغربية وأثرها على طبيعة الشرعية السياسية القائمة.