ارتكبت الحكومة اللبنانية مخالفات قانونية عدة في موازنة الدولة للعام الحالي. ولعل أبسطها «الإهمال»، مع أثره الكبير في نتائج التطبيق وانعكاساته السلبية الخطيرة، وذلك بسبب تأخيرها تقديم مشروع قانون الموازنة نحو 4 أشهر. وإذا كان يتوجب أن تكون الموازنة «مرآة» تعكس حالة الاقتصاد الوطني، وطموحات نموه، فإن موازنة لبنان هي انعكاس لنتائج أداء «الدولة الفاشلة». وفي هذا السياق جاء مؤخراً تصنيف وكالة «موديز» الأميركية الكارثي، والذي خفض تصنيف لبنان الائتماني إلى «القاع»، أي أدنى درجة لديه. وعزت «موديز» تقريرها إلى أسباب منها الانقسام الطائفي الذي تسبب بمفاوضات متكررة وممتدة بين الأحزاب السياسية، والجمود الحكومي الذي ساهم في عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، إضافة إلى الفساد الذي يعيق قدرة الشركات على إدارة الأعمال وتخطيط الاستثمارات، في حين أدت المحسوبية إلى الاحتكار وتقويض تنافسية الاقتصاد.
وبما أن خزينة الدولة هي «جيوب» رعاياها، خصوصاً في بلد كلبنان ليس لديه ثروات طبيعية مثل النفط والغاز والفوسفات.. فقد تضمّن مشروع موازنته 64 مادةً تتعلق بالضرائب، بما يشكل 58% من أصل 111 مادة، وهي سابقة في تاريخ الموازنات. وبدلا من أن تأتي هذه المواد في سياق نظام ضريبي جديد يهدف إلى تعزيز العدالة الضريبية وتحقيق التوازن والاستقرار المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، وإجراء إصلاحات تعالج العجز المالي والدَّين العام وإطفاء خسائر الدولة وتوزيعها على من استفاد من مكاسب ومغانم الحكم، فإن تطبيق تلك المواد يؤدي إلى تعميق الانهيار المالي، وتفاقم الخلل وتشريع الفساد. مع العلم أن نجاح جباية الضرائب مرهون بنمو الاقتصاد وازدهاره، ولا يمكن فرضها على اقتصاد منهار، تراجع حجم ناتجه المحلي من 54 إلى 19 مليار دولار في عام واحد، الأمر الذي أفرغ جيوب المواطنين الذين أصبحوا عاجزين حتى عن تأمين أدنى متطلبات العيش، ورفع معدلات الفقر إلى 55% من اللبنانيين. 
لكن يبقى الأخطر هو ما أطلق عليه «ضريبة التضامن الوطني»، وهي بمثابة هروب من الواقع، والطريقة الأسهل من دون أي مجهود أو إصلاح، كون الدولة عاجزة عن منع التهرب الضريبي أو ضبطه، وقد لجأت بدلا من ذلك إلى فرض مزيد من الضرائب على المودعين العاجزين عن سحب ودائعهم من المصارف والتي فقدت أكثر من 80% من قيمتها. وكذلك فرض ضريبة على فوائد استثمارات المصارف لدى مصرف لبنان، علما بأنها مناقضة لدعوة المستثمرين والمودعين والمساهمين للمشاركة في رفع رساميل المصارف وتحفيز نمو القطاع المصرفي، لتمكينه من تمويل مشاريع القطاعين العام والخاص.
وإذا كانت الأموال والاستثمارات تفتش دائماً عن «جنات ضريبية» يلجأ إليها الأغنياء طلباً للاستقرار والأمان والربح المضمون، يبدو أن لبنان لم يعد «جنة ضريبية» كما كان طوال العقود الماضية، بدءاً من مطلع ستينيات القرن العشرين عندما أطلق عليه لقب «سويسرا الشرق»، بل أصبح نموذجاً لـ«الدولة الفاشلة» التي يتلازم مفهومها، في العلوم السياسية، مع صفات عدة منها: عجزها عن القيام بوظائفها عموماً، لاسيما لجهة تحقيق الأمن والسلام والاستقرار لشعبها، وفقدان سيطرتها على ترابها الوطني، وعدم قدرتها على ضمان ورعاية الخطط الإصلاحية، وحتى عدم قدرتها على التفاعل مع دول الجوار والمجتمع الدولي.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية