«أسمع جعجعة ولا أرى طحينا» مثل عربي يلخص عنوان هذا المقال، معنى المثل أسمع صوت الرحى وهو يدور، لكنني لا أرى طحيناً نتاج ذلك، فالأصل أن الرحى تدور على البذور كي يكون في محصلة الأمر الطحين، وهو المادة الخام لكثير من المنتجات. للأسف الشديد هذا هو حال الكثير من الدول العربية عندما غلبت الظاهرة الصوتية على الواقع المعاش للشعوب العربية. كلمة المثالية في العنوان ترمز إلى الخطط الاستراتيجية التي تعلنها بعض الدول العربية خلال بياناتها الإعلامية ومؤتمراتها العلمية، لكن الواقع الذي يجده المواطن العربي في حياته العملية يقول إن معظم تلك الوعود ظاهرة صوتية لا يصدقها الواقع، وكلما زادت الفجوة بين المثالية والواقع المعاش كلما تأزمت حياة المواطن العربي، وزاد الاستياء العام لدى الشارع مما يقوده إلى فوضى لا تحمد عقباها، وهذا ما شهدته بعض الشعوب العربية، خلال حقبة ما يُعرف بهتاناً بـ«الربيع العربي». فجل من سار في الشوارع العربية في تلك الفترة لم يكونوا من المسيسيّن أو المنتسبين إلى الأحزاب بشتى أطيافها، لكنهم كانوا من البسطاء الذين ضاقت بهم السبل نتيجة هذه الفجوة بين ما هو معلن في الخطاب السياسي الجماهيري وبين الواقع الذي يعيشه الشارع العربي، وكلنا يدرك أن تلك الفجوة بإمكان أعداء الدول استثمارها في مشاريعهم التخريبية للدول العربية.
من يطلع على الدساتير العربية أو يتابع الخطط العشرية لكثير من الدول يجدها تؤكد أن الحكومة في خدمة الشعب، والهدف منها الوصول بالمجتمع إلى الرفاهة التي يستحقها من خلال تحقيق المرتكزات الأساسية للمجتمعات العربية، والتي تتلخص في نعمة الأمن وتأمين خدمات التعليم والصحة المناسبة لأفراد الشعب إضافة لوجود خطط للنهوض الاقتصادي وفرص العمل المناسبة للأجيال الشابة الذين يمثلون الغالبية العظمى في الدول العربية.
دعوني أركز على خطط الدول في تأمين فرص العمل، أو ما يعرف اصطلاحاً بتخطيط القوى العاملة. المعادلة سهلة، وإنْ حاول البعض تعقيدها، كل الدول عندها إحصاءات بعدد طلبة المدارس والجامعات والكليات، فمن هذا الرقم نستطيع توقع تاريخ تخرجهم من كلياتهم وجامعاتهم، وتعرف الدول تخصصاتهم. السؤال المحوري هنا يتلخص في ما بعد الدراسة: هل هناك فرص العمل المناسبة لجيل الشباب؟ وهل من الواجب على الدول خلق هذه الفرص؟ لا شك أن الفجوة بدأت في الاتساع بين أعداد الخرجين وفرص العمل المتاحة، وكلما زادت هذه الفجوة دخل المجتمع في فوضى البطالة، وما يصاحبها من انحرافات فكرية أو أخلاقية. ففي كل مجتمع، هناك من يستثمر هذه البطالة في إثارة القلاقل السياسية في الدول، وتبدأ العملية بطرح سؤال خطير: لماذا فشلت حكومتكم في تأمين فرصة عمل لكم؟ الإجابة عن هذا السؤال تجعل الشباب في حيرة من أمرهم، وقد تقودهم إلى ما لا يحمد عقباه من تحزبات فكرية مناهضة للمجتمع أو انحرافات أخلاقية تدق في أسس تلك المجتمعات. ما يميز الإمارات ردم تلك الفجوات، فهل تنجح بقية الدول العربية في هذه القضية المحورية؟
* أكاديمي إماراتي