وقفت طويلاً أمام كلمة القائد الفذ صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله: «الدول ليست بالحجم، الدول بالإرادة، ولا تستهينوا بإرادة الرجال».
بعض الدول لا تفكر بأكثر من يومها، وبعضها لا يفكر بأكثر من سنتها، وبعضها يفكر في عقد من السنين أو نحو ذلك، ولكننا اليوم في دولة الإمارات العربية المتحدة أمام تفكير جديد في المستقبل لم يسبق أن أعلنته دولة أو قيادة، إنها استراتيجية المائة عام، وقد أعلن عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، عندما طلب من أصحاب الإرادة من رجال الوطن أن يفكروا في خمسين سنة قادمة بعد هذه الخمسين التي نعيشها، إنه رسم الخطوط الكبرى لاستراتيجية مداها قرن من الزمان، وهذا لم يحدث من قبل.
إننا اليوم أمام متغيرات هائلة وسريعة على مستوى العالم في المجتمع وبنيته، والاقتصاد وهياكله، ومصادر الثروة ووسائل تنميتها، والأمن الداخلي والخارجي بدرجاته وأنواعه، والتعليم وفروعه وتخصصاته، وحدود الدول ومساحاتها، والعلاقات الدولية وتحالفاتها، والحروب وأدواتها وخططها...
إننا على أعتاب مرحلة جديدة تواجه البشرية وتستند إلى تيارات فكرية بمفاهيمها وتمتد إلى جميع جوانب الحياة، والمجتمعات والدول التي لا تدرك هذا، لن يكون لها وجود أو بقاء، والدول التي لا تجارى أو تساير هذه المتغيرات، ولا تسابق الزمن ليكون لها تأثير فيها أو حضور قوي في جانب من جوانبها فستكون غير ذات قيمة على المسرح الدولي مهما كان عدد سكانها أو سعتها ومساحتها. إننا اليوم نلاحظ بوادر تغيّر كبير في جوانب المشهد الدولي المعاصر، وليس العهد بعيداً حين شهد العالم انهيار الماركسية وتفتت الاتحاد السوفييتي الذي استمر كأيديولوجية مسيطرة على جزء كبير من العالم لمدة ثمانين عاماً تقريباً من 1917 - 1993م.
ولم تتوقف التغيرات خلال الفترة الماضية وحتى يومنا هذا، والأمر متسارع بسرعة التكنولوجيا المتدفقة التي تسير كل يوم في اتجاه جديد وإبداع مذهل، وستكون السنون العشرون القادمة مرحلة جديدة تطوي المراحل التي مرت على البشرية من بدء عصر النهضة الأوروبية في القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن العشرين.
هذه المتغيرات تضع المجتمعات صغيرها وكبيرها والدول كلها أمام امتحان البقاء والاستمرار في المستقبل، فالدول التي لا تضع الاستراتيجيات الصحيحة والخطط المحكمة القوية ستهتز وستتعرض لخسارة لا تعوض.
وإن وضع الخطط والاستراتيجيات للمستقبل لا يكون إلا في دول مستقرة ومجتمعات هادئة، لأن وضع هذه الخطط لابد أن يحدد الأهداف بوضوح، وإبراز الغايات المقصودة التي تمثل روح الوطن وقيمه وآماله المنشودة وطموحاته المرغوبة المقصودة، ثم بعد ذلك يستند إلى إحصائيات دقيقة متطورة وتصورات مستقبلية في كل ميادين الحياة بدءاً من عدد السكان وتوقعات زيادتهم خلال مدة الخطة، ومروراً بالإمكانات الاقتصادية وتقلباتها، والعلاقات بين الدولة وباقي دول العالم وما هو مآلها والفائدة المرجوة منها وتطورات المعرفة والتكنولوجيا وما هو مساهمة الوطن فيها؟...
وهذا الأمر لجميع الدول التي تسعى للمستقبل، مع وضع كل الاحتمالات العارضة وهي كثيرة وبعضها غير متوقع كما حصل في جائحة «كورونا» في هذا العام.
وكلما كانت الرؤية أوسع وأعمق كلما كانت الضمانة أقوى لاستمرار الدولة والوطن، وسيكون تأثيرها بالتقلبات والتغيرات محدوداً بقدر صحة الأسس التي قامت عليها الخطة والاستراتيجية، لأن استقرار الأوطان وقوتها لا يكون بالأماني الطيبة والأحلام الوردية، فكل هذا لا ينفع ولا يجدي إذا لم تكن هناك إرادة صلبة وعزائم رجال يحولون الأحلام والأمنيات إلى وقائع وأعمال.
إن أعظم ما يضمن تحقيق الاستراتيجيات الوطنية في خضم المتغيرات الدولية هو الحفاظ على الإنسان وبناؤه بناءً صحيحاً يجعله موقناً بأهميته وأهمية وطنه وعلى معرفة تامة ودراية في القيام بواجبه تجاه هذا الوطن حيثما كان وفي ميدان تخصصه، ثم العمل الجاد على أن يكون لهذا الوطن مساهمة في تيار الحياة العالمية، فالدولة المنعزلة المغلقة قد انتهت من الوجود، والدول التي سيكتب لها البقاء والاستمرار والازدهار هي التي تتخطى حدودها الجغرافية وتصنع لنفسها دوائر معنوية أوسع بكثير في كل جهات العالم، وهذه هي الحدود الحقيقية للدول المستقبلية.
وإننا في هزَّة التغيير هذه نجد كثيراً من الأفكار التي كانت سائدة في القرن العشرين وقبله قد شاخت وذبُلت وبعضها سقط، وهذا سيجر وراءه سقوط دول كما سقط الاتحاد السوفييتي منذ ثلاثين عاماً، وكما سقطت قبله دول وحضارات، لأن أفكارها شاخت وشحبت ولم تتجدد.
إن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، الذي وضع عبقريته وجهده وفكره لمستقبل هذا الوطن وقوته، قد عمل بكل جهده لتكون استراتيجيات هذا الوطن محكمة قوية تدرك الإمكانيات التي يتمتع بها وكيفية تطويرها وتثميرها لعقود مديدة من السنين، وهو يدرك ما يحيط بها من متغيرات إقليمية ودولية مع رؤيته الثاقبة لتوجهات الفكر الإنساني والتواصل البشري والتحولات الاجتماعية القادمة، وقد لا تدرك هذه التحولات الاجتماعية الدراسات ولا تستطيع التنبؤ بها مؤسسات قياس الرأي العام، لأنه، حفظه الله، يدرك الروح الاجتماعية لهذا الوطن في ماضيها وحاضرها ويرى مستقبلها ومآلها.
وإن روح الاستراتيجيات التي تبنتها الدولة حتى نهاية هذا القرن وما بعده هي بناء أجيال هذا الوطن الشابة في واقعهم ومستقبلهم، فلقد فتحت لهم كل الأبواب والآفاق ليكونوا من البناة بفكرهم المبدع وأعمالهم الرائدة، وليخوضوا غمار المستقبل وطرقه التي تغيرت عن طرق الماضي بكل جدارة ومسؤولية.
وإن التشبع بالهوية الوطنية والاعتزاز بها أساس ومنطلق للحفاظ على الوجود، وهو قاسم مشترك يستوي فيه جميع أبناء الوطن، وينقله الجيل السابق إلى اللاحق بكل ما فيه من قيم وتراث وتاريخ ومحبة وولاء.
وكذلك التعليم عنوان المجتمع وطريق الإبداع والإسهام في الفكر الإنساني، وقد فتحت له الاستراتيجيات كل الأبواب وجعلت أبناء الوطن ذكوراً وإناثاً في طريق بناء الذات والوطن والمشاركة الإنسانية بتكاملية وشمولية في تيار المعرفة المعاصرة والمتوقعة، فالمعرفة متطورة متغيرة ولكنّ أساسها ونماءها في فكر الإنسان وممارساته.
وإن أعظم الاستراتيجيات وأكثرها فائدة هي التي تحافظ على أمن الوطن واستقراره في خضم التغيرات المتتابعة والتقلبات التي لا تتوقف، وجعله ينتقل من حقبة إلى حقبة وجيل إلى جيل بكل اطمئنان وثقة، فاللاحق يأخذ المسؤولية من السابق ويتابع السير قُدُماً إلى تحقيق الأهداف التي رسمتها العقول المخلصة السابقة.
وإن الاستراتيجيات الراسخة التي أخذت بكل الاحتمالات والتوقعات عند وضعها وإن اعتراها تغيير فلن يكون كبيراً، ولن يحرفها عن غاياتها ومقاصدها التي ترسِّخ مكانة الوطن في سياق العالمية، وتبرز قيمة المواطن الباني المبدع.
إن رهان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، هو هذا الجيل الذي بدأ يدخل ميدان العالمية بواسع معناها، وهو مؤهل لكل التغيرات المتوقعة وغير المتوقعة في المستقبل، ولهذا فقد فسح الطريق أمام الجميع للإسهام في هذه الاستراتيجيات والمشاركة في إبدائها ووضعها كلٌّ في ميدانه وتخصصه، وهذه الرؤية الثاقبة للشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، إذ يشركهم في المسؤولية بواسع معانيها ليصنع من هذا الجيل كله الإرادة الصلبة ويحملوها إلى الأجيال القادمة، وهذا أهم مرتكز في وضع الاستراتيجيات لتجنب أخطار المتغيرات، ولهذا أكد، حفظه الله، بقوله: «ولا تستهينوا بإرادة الرجال».

المستشار الدكتور/ فاروق محمود حمادة

*المستشار الديني بديوان ولي عهد أبوظبي