بحيادية، نقرأ مرحلة الإدارة الأميركية السابقة، ونحاول مقارنتها بفترة الإدارة الأميركية الجديدة، والتي لم نتبين حقاً، لغاية الآن، هويتها إلا حسب المعطيات الأساسية المتمثلة بمرجعيتها الديمقراطية، وتوجهات الحزب السابقة، ورؤيته الإستراتيجية المعروفة، تجاه معظم القضايا وعلى رأسها، بالنسبة لنا، العلاقات مع الشرق الأوسط، ومع دول الخليج، على وجه التحديد.
حين يتعلق الأمر بالمصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية، فـ«الديمقراطيون» لا يختلفون عن «الجمهوريين»، قد تكون طريقة وآليات التنفيذ مختلفة، إلى حد ما، وقد يظن البعض أن ذلك يعد اختلافاً جوهرياً، ولكن الحقيقة أن الخط الواضح المباشر في تاريخ الولايات المتحدة تجاه العلاقات الدولية، ومنذ الحرب العالمية الأولى، لم يختلف قيد أنملة، سواء مع الخصوم أو الحلفاء، ولكن الاختلاف الظاهري، كان يحوم معظم الوقت، حول شخصية الرئيس الأميركي وفريق عمله، والطريقة التي يفضلونها لإرساء العلاقات الدولية.
الجانب الآخر من شخصية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، كان يُبين دائماً بأن خلفيته كرجل أعمال جعلته يبدو وكأنه مجتهد في إبرام الصفقات، التي تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، وقد يظن «الديمقراطيون» أن الإدارة السابقة قد سلكت مسلك «نظرية الأمننة» لتحقيق الغاية الرئيسية في علاقة أميركا مع الشرق الأوسط، وهذا نهج يخالف طريقة «الديمقراطيين«، الذين لم يهتموا لحجم التهديدات الحقيقية لأمن الشرق الأوسط، خلال عهد الرئيس أوباما، بقدر اهتمامهم مثلاً بفرض أجندة بعض الجماعات التي تم تصنيفها في المنطقة بأنها إرهابية.
خلال عملهما في معهد كوبنهاغن للدراسات الأمنية، طور «باري بوزان» و«أولي وييفر»، في ثمانينات القرن العشرين، «نظرية الأمننة» كتوليفة بين النظرية البنائية والواقعية الكلاسيكية، ويقول عنها «تيري براسبينين بالزاك»: إن «الأمننة هي ممارسة تحكمها القواعد، ونجاحها لا يعني بالضرورة اعتمادها على وجود تهديد حقيقي، بل بالقدرة الاستطرادية لمنح دفعة تقدم الجانب العام للقضية»، ولكن الإدارة الأميركية السابقة كانت تعلم بوجود تهديد حقيقي في الشرق الأوسط، وكل ما في الأمر أنها أرادت تسليط الضوء عليه بصورة أكبر، سواء التهديد الإيراني المتصاعد حول تخصيب اليورانيوم، وتهديد الجماعات الإرهابية والفكر المتطرف في عدد من دول الشرق الأوسط، أو التهديد التركي للأمن الإقليمي والعربي، وقد تكون هذه الأسباب وغيرها هي التي دفعت دول في الخليج على المضي قدماً في خط متواز مع الإدارة الأميركية السابقة، كشركاء وحلفاء في إبعاد التهديدات وإرساء السلام في المنطقة.
الخبراء يعلمون أن الرئيس الأميركي السابق لم يكن بحاجة لـ«أمننة» الشرق الأوسط، فهذه المنطقة بتجاذباتها المعقدة، ومنذ أصقاع التاريخ، كانت موضوعاتها مسرحاً أمنياً للحضارات والإمبراطوريات والدول والشعوب التي عاشت فيها، وفي العصر الحديث، ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، لم تهدأ أيضاً، وبقيت تغلي على سطح صفيح ساخن، حتى هذه اللحظة، باستثناء دول الخليج العربي، التي شهدت منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تطورات تنموية جعلتها الأكثر هدوءاً وأمناً، بل وجعلتها أكثر قوة سياسية واقتصادية وعسكرية متماسكة، في مواجهة التهديدات الكبرى التي تحيط بها.
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة دائماً: هل يمكن لإيران أن تكون جارة مسالمة دون نوايا خبيثة في منطقة الشرق الأوسط ودون التدخل الأميركي؟ لو كان الجواب نعم، فإن دول المنطقة سوف تُرحب بعودة أميركا إلى الاتفاق النووي، بل وستكون كلها داعمة لكافة مبادرات السلام الممكنة بين دول الإقليم، وسيتحتم على إيران التوقف عن التدخل في شؤون دول عربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، وستسقط «نظرية الأمننة»، وسيحل مكانها السلام ومشاريع التنمية المشتركة، ولكن إيران لا تريد ذلك، والذي سيجعل عودة الأميركيين للإتفاق النووي شبه مستحيلة، في ظل تشديد إيران أن تبدأ أميركا الخطوة الأولى وهي رفع العقوبات أولاً!
في ظل تلك المقارنة، وحين يعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن مراجعة الدعم العسكري لدول الخليج واستئناف الحوار مع إيران، ثم يعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن «الرئيس بايدن أوضح أنه إذا أوفت إيران مجدداً بكل التزاماتها باتفاق 2015، فإن الولايات المتحدة ستفعل الأمر نفسه»، فإن ذلك يوضح أن الإدارة الأميركية الحالية، ستجد في النهاية، أن «أمننة» الشرق الأوسط، هي ليست طباع شخصية لدى الرئيس السابق لدعم الاقتصاد الأميركي إنما هي تحديات كبرى، عليها مواجهتها بما يضمن الأمن والسلام في الشرق الأوسط.