الأصل في النظم الديمقراطية أنها تُصَنف كأفضل نظم للحكم، مع التسليم بالاختلاف على مفهوم الديمقراطية وإن كان هناك توافق على أنها ترتبط في أحد عناصرها المهمة بالآليات الانتخابية التي تعبّر من خلالها الشعوب عن رأيها في من ترتضيه لحكمها وفي أداء من تختارهم بحيث تستطيع محاسبتَهم سواء عن طريق المؤسسات التشريعية أو الانتخابات اللاحقة. لكن عين المراقب لا يمكن أن تخطئ وجود أزمة تواجهها النظم الموصوفة بالديمقراطية، أزمة تبدو آخذةً في التصاعد خلال السنوات الأخيرة، وقد تكون سابقة على إعمال الآليات الانتخابية أو لاحقة لها، وأنها كذلك ترتبط إما بمعوقات تعرقل التطبيق السليم لهذه الآليات أو تحول دون أن تُفضي إلى التعبير الصادق عن قوى المجتمع.
وبالنسبة للأزمات السابقة لإعمال الآليات الانتخابية، يبدو هذا واضحاً في البلدان التي تعاني من الاحتراب الأهلي أو الانقسامات السياسية التي غالباً ما تتدخل فيها قوى خارجية. ومن ذلك على سبيل المثال ليبيا، حيث يحتدم الصراع منذ عقد من الزمان حين بدأت القوى الوطنية تدرك أن المخرج الوحيد لإنقاذ البلاد هو التوافق على إجراء انتخابات في إطار دستوري متفق عليه، ومع ذلك ليس خافياً أن الميليشيات المسلحة المتربحة من الحرب، والقوى الخارجية الداعمة لها، والتي وصلت في دعمها إلى حد جلب مرتزقة من الخارج لهذا الدعم، على أهبة الاستعداد لتخريب أي عملية انتخابية يمكن أن تمس مصالحها. كما أن الانقسامات السياسية التي تغذيها مصالح الفصائل المتخاصمة، وكذلك قوى خارجية أيضاً، كما هو الحال في الانقسام الفلسطيني.. قد حالت طويلا دون حل الأزمة السياسية في الساحة الفلسطينية والتي نشبت منذ 15 سنة، وها نحن نترقب إجراء الانتخابات التي أُعلن عنها في مايو القادم بكل الأمل والقلق تحسباً لأي تطور يحول دون إجرائها، علماً بأن التحسب يمتد لما بعد إتمامها حيث ننتقل إلى النوع الثاني من المعوقات اللاحق لإجراء الانتخابات.
ويبرز هذا النوع من المعوقات في البلدان التي تعاني من الانقسامات المجتمعية والسياسية الحادة، بحيث أن اللجوء إلى الآليات الانتخابية لا يعني الوصول إلى بر الأمان، بل يكون على العادة مقدِّمةً لأزمات ممتدة تسبق تكوين الحكومات، فإن تكونت واجهت عقبات حقيقية في أدائها مهامَّها، وذلك بسبب الانقسامات المجتمعية والسياسية الحادة التي تميز تلك البلدان. ويبدو المثال اللبناني شديد الوضوح في واقعنا العربي، حيث كانت عملية تشكيل الوزارات دائماً متعثرةً، وليس أدل على هذا مما مر به لبنان منذ استقالة حكومة سعد الحريري بعد الحراك الشعبي والتشكيل الصعب لحكومة حسن دياب وتعثرها ثم استقالتها بعد تداعيات انفجار مرفأ بيروت، وتكليف الحريري مجدداً بتشكيل الوزارة وتعثره في مهمته حتى الآن مع غياب أي مؤشرات على نجاح قريب محتمل. والتفسير البديهي لهذا الوضع بالغ التعقيد هو تلك الانقسامات الطائفية الراسخة التي يستفيد منها زعماء الطوائف والقوى الخارجية التي توظفهم.
وفي الجوار اللبناني مباشرةً توجد الحالة الإسرائيلية التي تتعثر فيها طويلا عملية تكوين الائتلافات الحاكمة، فإن تكوَّنت واجهت في العادة مشكلات حقيقية نتيجة تعدد ألوان الطيف السياسي داخلها، مما يؤدي إلى تكرار اللجوء إلى الانتخابات البرلمانية المبكرة، دون أن يؤدي هذا إلى أي تغيير حقيقي يحل المشكلة. وهكذا لجأت إسرائيل إلى ثلاث انتخابات تشريعية في أقل من عام ما بين أبريل 2019 ومارس2020 دون أن يؤدي هذا إلى أي تغيير حقيقي في الخارطة السياسية يحل المشكلة، وها هي في طريقها الآن إلى الانتخابات الرابعة. والأخطر من هذا كله أن الأزمة بدأت تمتد إلى الديمقراطيات الراسخة، وهذه قصة أخرى.