لا يوجد بلد في أوروبا قاطبة أكثر من فرنسا يمكن أن ترسم العلاقة به الملامح الأبرز في الجدل الطويل بين الشرق بالغرب. فرغم أن إنجلترا قد احتلت أغلب العالم العربي، فإنها لم تسع طيلة عقود جثومها على صدره عنوة، أن تخدش أي شيء يتعلق بالهوية، وما في قلبها من دين وثقافة وشعور بالكينونة، وكذلك كان الاحتلال الإيطالي لليبيا. 
من أجل هذا لم أُقلِّب عينيَّ في حواري وحوانيت ومقاهي الحي اللاتيني بباريس بالطريقة نفسها التي رأيت بها أماكن أخرى في دول أوروبية أو غيرها، فإلى هذا المكان وحوله جاء رفاعة رافع الطهطاوي عام 1826 ليمكث خمس سنوات، ثم يصف كل شيء في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وكان ضمن بعثة أرسلها محمد علي لنقل التجربة، بعد سنوات قليلة من رحيل حملة نابليون بونابارت عن مصر مهزومة. وهنا دبت قدما طه حسين وهو يسمع الفرنسية التي كانت غريبة عليه في البداية حتى أسماها «سجن لافونتين»، ثم أتقنها. وهنا سار توفيق الحكيم وراء نداهة الأدب، التي أخذته من دراسة القانون، وتأمل يحيى حقي ما جعله يكتب «قنديل أم هاشم»، وشمخ أنور عبد الملك بأنفه وهو لا يريد أن ينسى «ريح الشرق» ويدعو إلى «تغيير العالم»، وسيطر هذا المكان على رواية سهيل إدريس، الذي انفعل به حتى أنه لم يختر سوى «الحي اللاتيني» ليكون عنوانا لها. وعلى مقربة من هنا تقع السوربون حيث تعاقب عليه كثيرون من العرب عبر سنوات طويلة لدراسة مختلف العلوم.
استحضرت وجوه هؤلاء وغيرهم وأنا أحاول التقاط الخيط الذي برق أمامهم وهم يتجولون في المكان في زمن مضى فأمسكوا به، وتتبعوه حتى وقعوا في غواية باريس. لكني تذكرت أنني لن يطول بي المقام مثل أي منهم، وأن الرحلة لن تستغرق سوى أيام قليلة، وهنا سيطر عليَّ خاطر غريب وهو أن أملأ عينيَّ بالجدران والشرفات والطرقات والأبواب وقبلها الوجوه، ثم أغمضهما ليستقر كل شيء فيهما طويلا. لكن، كالعادة، راح كل شيء يذوب ويتلاشى، ليبقى فقط المعنى، الذي لا يزيد أن هذا الحي كان من نقاط الالتقاء القوية بين الشرق والغرب، شأنه شأن أماكن في القاهرة مثل «بيت السناري» و«بيت حسن الكاشف» الذي صار مدرسة الآن والمجمع العلمي في شارع قصر العيني، حيث حل علماء الحملة وفنانونها.
كان مرافقي يشرح لي معالم المكان على مهل، وكنت أشرد منه أحيانا راحلا إلى القاهرة، لأستعيد الجدل الذي لا ينتهي حول إجابة على سؤال مهم في مسار التاريخ الإنساني كله: هل كانت حملة نابليون على مصر نعمة أم نقمة؟ لكن الانشغال بالسؤال وإجابته سرعان ما ذاب في ترحيب نادل المقهى بي حين عرف أنني قادم من مصر، حتى ظننت أنه يرى على وجهي صور المعابد الفرعونية ومعالم القاهرة الفاطمية والمملوكية، ثم قال بالإنجليزية التي كنت أحدثه بها: «زرت مصر مرة ولا يمكن أن أنساها أبدا».
وقتها أدركت أن العلاقة بين مكانين وزمانين حضاريين لا يجب أن ترسم خطوطها سنابك الخيل أو جنازير الدبابات، إنما هذا الشيء البسيط الناعم الذي ينظر إليه أغلب أصحاب القرار السياسي والعسكري باستهانة وهو الثقافة، التي لا تقف عند حدود الكتب والمحاضرات والندوات إنما العمران والذكريات والانطباعات الجيدة عن الناس والأمكنة.
إن الصورة الأقرب لأي حوار يجري بين من يعتقدون أنهم في صراع أبدي هو البحث عن كل ما يسعد الإنسان ويوجعه، فهنا سنجد أن الأشواق والشجون متشابهة، وأحيانا تكون متطابقة، وأنها وحدها القادرة على أن تصل ما انقطع، ويتأسس عليها أي حوار أو تفاهم.