تشكل الثروة السمكية أهمية اقتصادية ومعيشية للبلدان الساحلية، حيث اهتمت مختلف البلدان بتنمية هذه الثروة، خصوصاً وأن نسبة مهمة من الأيدي العاملة تعمل في هذا القطاع الحيوي، مما أدى إلى نشوء نزاعات بين الدول في مختلف مناطق العالم، وذلك لصعوبة تحديد الجرف القاري لكل دولة وكذلك التنازع على الجزر المنتشرة حول البر الرئيسي لكل منها.
نهاية العام الماضي كادت قضية صيد الأسماك أن تخلق أزمة مستعصية تحول دون توقيع اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فوفق العضوية يسمح لكافة البلدان الأعضاء في الاتحاد ممارسة الصيد البحري بحرية في البحار المحيطة بدول الاتحاد، حيث طالبت بريطانيا بإنهاء ذلك بمجرد خروجها في بداية شهر يناير الجاري، إلا أن المفوضية الأوروبية رفضت ذلك بشدة حتى الدقائق الأخيرة، مما أدى إلى التوصل لاتفاق يسمح باستمرار دول الاتحاد بالصيد في المياه البريطانية لإنقاذ اتفاقية الخروج، على أن تتم مراجعة ذلك لاحقاً باتفاقية لصالح الجانبين.
قبل ذلك حدثت خلافات عميقة حول الصيد البحري في أكثر من منطقة حول العالم، وبالأخص بين إسبانيا والمغرب، حيث أصرت إسبانيا على الصيد في المياه المغربية، وهو ما زال مستمراً حتى الآن، وبالأخص صيد السردين الشهي، والذي لا تخلو منه المطاعم الشاطئية الإسبانية، وبالأخص في الأندلس، كما جرت مناوشات في بحر الصين الجنوبي بين الصين وأكثر من دولة هناك، إذ أن الأمثلة كثيرة في هذا الصدد.
مؤخراً، برزت هذه القضية بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً وأنه من الصعوبة تحديد الجرف القاري لكل دولة والذي لا يتجاوز عدة كيلومترات، على عكس الخلافات في المناطق الأخرى الممتدة على مساحات شاسعة في المحيطات والبحار المفتوحة.
وبعيداً عن مهاترات التواصل الاجتماعي الرخيصة، وبالأخص ما نسميه «تويتر الشوارع» لتمييزه عن «تويتر» المتزن، فإنه لا بد من النظر إلى هذا الخلاف من الناحيتين الاقتصادية والقانونية الموضوعية والعلمية، فدول مجلس التعاون ترتبط باتفاقيات ضمن السوق الخليجية المشتركة، على غرار السوق الأوروبية، وبالتالي، فإن الصيد قرب حدود بعضها البعض يعتبر مشروعاً من الناحية القانونية، خصوصاً وأن الحدود البحرية قريبة ومتداخلة بصورة معقدة، علماً بأنه من الصعب على صيادي الأسماك البسطاء التمييز بين الحدود البحرية لدولهم.
والحال، فإن عمليات الصيد المشتركة كانت تتم على مدى مئات السنين، فإذا عدنا للتاريخ، فإن اللؤلؤ كان ثروة كبيرة وعماد الاقتصادات الخليجية، كما هو النفط الآن تماماً، ومع ذلك كانت القوارب الخليجية تصطاد في هيرات اللؤلؤ على امتداد الخليج، ويتم بيعه في أي دولة خليجية دون ضرائب ودون قيود، بل كان الخليجيون يتقاسمون لقمة العيش وقطرة الماء بينهم في عرض البحر، لذلك قال الشاعر الشيخ عيسى بن راشد رحمه الله: «نحن اللي جمعنا البحر واللولو والدان» وللأسف، فإنه في حالة الغنى والوفرة الحالية أضحى نفس البحر يفرق من أجل سمك «فشلة».
وإذا كان الأمر كذلك بجوانبه الاقتصادية والقانونية والتاريخية، فإن الأمر يتطلب تطبيق اتفاقية السوق الخليجية المشتركة، علماً بأنه في مناطق العالم الأخرى يتم الحديث عن شركات صيد عملاقة، وبالأخص الأوروبية والصينية التي تقوم بصيد آلاف الأطنان من الأسماك سنوياً وتسوق منتجاتها في مختلف البلدان. أما في دولنا الخليجية، فإننا نتحدث عن صيادي أسماك بسطاء لكسب قوت يومهم بكميات بسيطة ولا يعنيهم كثيراً ما يتم في دهاليز السياسة، ما يعني أن التعامل معهم بعنف واحتجازهم وسجنهم أمر في غاية القسوة، ولا ينم عن روح التسامح الخليجية المعروفة، إذ يمكن تنبيه الصيادين في حالة الذهاب عميقاً في الحدود البحرية لهذه الدولة أو تلك، مما سيجد آذاناً صاغية ومعالجة هذه الإشكالات التي تحدث دائماً بمودة واحترام كافة الأطراف لبعضها البعض، والالتزام بالصيد البحري ضمن حرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية لأبناء دول المجلس، إلى جانب الأنشطة الأخرى المتضمنة في الاتفاقية الاقتصادية الموحدة لدول مجلس التعاون الخليجي.
* مستشار وخبير اقتصادي