من أهم طرائق معرفة قوة مجتمع ما النظر إلى حال الأجيال الجديدة فيه، ومدى اعتزازهم بهويتهم الوطنية، نحن كعرب لنا هويتنا التي نعتز بها توارثناها عبر الأجيال، ومن حق الجيل القادم علينا أن نرضعهم ما حسنُ من تلك الهوية، فكلنا يدرك خطورة المراحل الأولى من حياة الإنسان في بناء شخصيته الخاصة به، فما تم تعلمه في الصغر يقطف المجتمع ثمراته في الكبر.
الهوية كما تعلمون لها شقان مادي ومعنوي، فالملابس تمثل نموذجاً للجانب المادي من الهوية الوطنية. والأخلاق والقيم تعبر عن الشق الآخر، وبالرغم من أن التغيير قد يكون مطلوباً في بعض الجوانب من الهوية بما يتناسب مع المستجدات، وبما لا يتعارض مع الثوابت، إلا أن الشق المعنوي من الهوية لا ينبغي التساهل فيه، فقيم الإنسان وأخلاقه ولغته لا ينبغي أن تكون سلعة للعرض والطلب.
يؤسفني القول إن لدينا سوء تقدير في مثل هذه الأمور تحت شعار الانفتاح على الآخر، فمن هذا الباب يتصور البعض أن التخلي عن الأخلاق والقيم سيقربنا من غيرنا، وحقائق التاريخ تقول لنا إن الأمم تُحترم بمدى اعتزازها بقيمها وأخلاقها. وتقليد الآخر في كل شيء يخلق ضعفاً في بناء الشخصية الإنسانية، لأنها تعيش حينئذ صراعاً بين جذورها وممارساتها. دعونا نستفيد من تجربة إسرائيل، وكيف تمكنت هذه الدولة من صهر البشر الذين وفدوا من مختلف أرجاء المعمورة، كي يمثلوا الشخصية اليهودية بشقيها المادي والمعنوي، فبعد أن كادت اللغة العبرية تتلاشى من الحياة وتنحصر في دور العبادة، أضحت اللغة العبرية لغة العلم والمعرفة والخطاب الرسمي لإسرائيل. النتيجة أن هذه الدولة فرضت احترامها على العالم بمدى التزامها بهويتها وإحياء ما كاد يندثر منها.
على النقيض من ذلك، نجد في العالم العربي هجرة معاكسة في ما يرتبط بقيمنا كعرب ، فأجيال نشأت تعتذر عن الخطاب العربي لأنها لا تجيد عملياً التحاور باللغة العربية، بل إنها لا تعتز بذلك. أتذكر أنني كنت جالساً في أحد الاجتماعات الدولية لليونيسكو، وفي هذه الاجتماعات تتوفر الترجمة الفورية لأكثر من لغة عالمية بما فيها اللغة العربية، صعد إلى المنبر المتحدث الرسمي التالي وهو وزير للثقافة في إحدى الدول العربية، تفاجأت بأنه قرر مخاطبة العالم باللغة الإنجليزية، تبسم أحد الأجانب الذي كان جالساً بقربي، وقال لي لو كان هذا الوزير من دولتي لأجبر على تقديم استقالته فور اختتام خطابه، فكيف يكون وزيراً للثقافة في دولة، ويتردد في الحديث بلغته الوطنية! وإذا كان هذا هو حال وزير الثقافة، فكيف سنقنع الأجيال القادمة بلغتهم الوطنية؟
لسنا ضد غيرنا، ولن نكون متطرفين إنْ كنا معتزين بهويتنا. العالم لا يريدك أن تنسلخ من هويتك، فجمال الكون في تنوع الثقافات، وبمقدار التزامك بهويتك الوطنية تستطيع أن تفرض وجودك في العالم كفاعل أساسي مرفوع الرأس. أما إن قررت عكس ذلك، فتحولت إلى مفعول به منصوب الإرادة. 

*أكاديمي إماراتي