كانت حلقة قصيرة بحوار مركز ومكثف من برنامج «نيران صديقة» للزميل بالغ التهذيب عبدالعزيز الخميس على شاشة سكاي نيوز عربية، وكان عنوانها سؤالاً كبيراً وخطيراً: (هل يحتكر اليسار منظمات حقوق الإنسان؟).
الحوار كان بين ضيفين: عبدالجليل المعالي وهو أستاذ صحفي من تونس، يدافع عن اليسار بنزاهة وصدق ولكن بيأس واضح! وعلى الطرف الآخر من بروكسل كان الصديق رمضان أبوجزر، مدير مركز بروكسل للأبحاث، وهو من معرفتي الشخصية به صاحب تجارب سياسية طويلة من غزة مسقط رأسه إلى الجزائر حيث تعلم ودرس حتى بروكسل، حيث استقر واستوطن كمواطن وباحث سياسي مجتهد.
في الحلقة القصيرة والمفيدة، صار عندي يقين بحقيقة مآلات «اليسار العربي» الحزينة والبائسة بعد مسيرة طويلة من زراعة الوهم، الذي انهار دفعة واحدة أول تسعينيات القرن الماضي.
عموماً، تزامن سقوط «برامج» اليسار العربي مع صعود التوجه الليبرالي وانتشار مفاهيم الديمقراطية الغربية كنموذج المنتصر في حرب باردة وطويلة وقاسية، وترافق ذلك في دول الغرب تغيرات اجتماعية وفكرية، كان اليسار «الغربي» فيها قد أخذ تحولاته الجديدة بخبث وذكاء ليفرض أجندات اجتماعية لا سياسية، ويسعى لتسويقها وترويجها لينتهي مع نهاية التسعينيات إلى ترسيخ مفاهيم «الصوابية السياسية»، تلك الفلسفة المهجنة من كل شيء والتي تواجه كل المنظومات الأخلاقية والدينية التقليدية بشراسة.
كانت «المنظمات الحقوقية» حصان طروادة لكل حركات اليسار في العالم، وفي العالم العربي كذلك، فتسلل إلى داخل ذلك التجويف الحقوقي للحصان الطروادي المخترق لكل الدول والمؤسسات الرسمية كل المنادين بالتغيير الراديكالي المستعجل، وتحت اسم «حقوق الأقليات والجماعات» تكونت وتكاثرت الأقليات الاجتماعية والجماعات المطلبية والحقوقية والإثنية والجندرية والعرقية، وتفرعت هوياتها حتى بتنا نسمع عن شخصيات «مشهورة» في عالم الثورة المعلوماتية المدهش فعلاً، تطالب بأن لا يتم تصنيفها كذكر ولا أنثى، حتى يجد العالم تسمية مناسبة لما يشعرون به من حالة تيه وضياع بين الجنسين!!
في عالمنا العربي، كان ركاب «حشوة» الحصان الطروادي من فلول اليسار المأزوم بعد انهيار منظومته السياسية. وهذا لا يعني سوء المنظمات الحقوقية، بل يعني اختطافها من قبل متمرسين في العمل السياسي وخبراء في الانتهازية حد التحالف مع خصوم الأمس الأشرس، التيار الإسلامي، في تحالفات عجيبة بين «منظمات حقوقية» افتراضاً، وتيارات إسلام سياسي تبحث عن منافذ وثغرات للدخول في المجتمعات واختطاف السلطة فيها.
حشوات الأحصنة الخشبية من يساريين انتهزوا الفرصة وتحالفوا مع إسلاميين هم أصلاً خبراء الانتهازية السياسية، فكان حاصل الفرق والقسمة والطرح فيها يساريين حقيقيين ومخلصين، تم إقصاؤهم من المشهد السياسي، ومن حاول البقاء كان مصيره الاغتيال المفضوح، «وقد ارتد خارجاً عن الملة» !!في الحلقة، كان الصديق «أبوجزر» ذكياً وشجاعاً لالتقاط تلك الحالة التي تجسدت بمثاله عن يساري انتهازي كافأه حلفاؤه «الإخوان» بعد اختطاف السلطة في تونس بمنصب رئيس الدولة، وتجسدت أيضاً في المقابل بشخصيتين يساريتين تمسكتا بالنزاهة «على بؤس الحال والأحوال» ورفضتا التحالف مع الإسلام السياسي المحترف للقرصنة السياسية، فتم اغتيالهما بوضح النهار التونسي الحزين. باختصار، كان عنواناً يحتاج أكثر من حلقة، فالحديث فيه عميق وطويل والنماذج كثيرة ومفضوحة.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا