لا عذر للفاسدين إن كان الفساد بقصد ونية، أو بإهمال أو جهل أو قلة معرفة أو استعداد وجاهزية، أو أن يكون من دون قصد وحسن نية ومجرد محاباة، أو تفضيل، أو حكم شخصي، أو ضمن دوائر مغلقة يكون فيها القرار متأثراً بالمجموعة أو الأحكام السابقة، أو عدم امتلاك مهارة النظرة الشاملة، وقياس جميع الأبعاد لكون المحصلة النهائية والتأثير وتوابعه واحدة، وبالتالي هو أعظم تهديد على مكونات التنمية والأمن القومي والوطني لجميع الأمم، بعيداً عن التشريعات والأحكام القضائية والتجريم والرقابة العلنية والسرية، وهي بالمناسبة ليست كافية لكون هذه الإجراءات ومن يطبقها قابلين للتجاوز والتأويل والتحايل والخداع وسوء التنفيذ، ولذلك، فإن عدم ربط الفساد بكل تقسيماته وتجلياته وليس فقط الفساد المالي والإداري بالأمن القومي- بكونه من عوامل الهدم والتدمير، التي تؤثر على بقاء الدول وتنافسيتها العالمية ومعدلات التنمية والنمو فيها- يُعد في حد ذاته، جريمة لا تغتفر.
فالفساد ليس ظاهرةً جديدةً، أو أمراً من الممكن أن يختفي من حياة الشعوب، فهو متأصل في الطبيعة البشرية، ولكن مهمة الحد منه والتخفيف من آثاره المدمرة، تظل ممكنة مع تطور التقنيات والبرمجيات والنظم التي تعد من الخيال العلمي والحواسيب وتطبيقات الذكاء الصناعي، وإدارة البيانات الضخمة الخارقة للعادة، ويشمل الفساد مجموعة من الأنشطة غير الأخلاقية والمنحرفة التي تعم القطاعين الخاص والعام، ويترتب عليه عواقب أكبر بالنسبة للأغلبية، ليس على مستوى دولة محددة وحسب، بل إن تأثير الفساد متقاطع وعابر للحدود، وقد تساهم دولة معينة في خفض الفساد في دولة أخرى لتتجنب التأثير السلبي عليها، أو إضعاف دولة منافسة بنشر الفساد فيها، ويكفي وضع غير المناسبين في المناصب القيادية، لتفكيك الدول وإضعافها دون حروب وعقوبات، وإبعاد الفساد حسب البيئة التي ينشأ فيها في كل قطاعات الدولة، يقود للاستخدام غير الفعال لموارد الدولة وتقويض قدرة الحكومة على تخصيص الموارد وتقديم الخدمات المناسبة للسكان.
ولذلك أمن الدول لا يرتبط فقط بالحفاظ على وحدتها وسيادتها واستقلالها وازدهارها، بل كذلك بقدرة الدولة على استمرارية تقديم وتعزيز نوعية وجودة تحقيق الاحتياجات الأساسية والمصالح الحيوية للسكان وقمع قوى الفساد وقطع دابر جذوره.
فالعجز عن اكتشاف الفساد المستتر، والذي ربما تحميه القوانين أو الثقة الزائدة في الأشخاص في بعض الأحيان، يتطلب التفكير الإبداعي غير التقليدي وبحوث وتحقيقات جادة تركز على مكافحة الفساد وكيفية تحقيق ذلك، وإلى معرفة وفهم واضحين للفساد، وإنفاذ النظم الجيدة، والتنظيم، والسلوك الأخلاقي، والقيادة الجيدة والصادقة، هي أمور حاسمة في مكافحة الكارثة، وفصل أجهزة مكافحة الفساد عن المؤسسات وربطها مباشرة بقمة الهرم في الدول، دون تدخل أو وساطة أو تأثير من أي شخص أو مؤسسة، وهو ما يحدُّ من تحول مؤسسات الخدمة العامة إلى أدوات للاستغلال العام، ووقف المسؤولين الملتوين من أن يجعلوا المواطنين يعتقدون أن النظام يعمل ضدهم، وأنهم وحدهم من يملكون المهارة والمعرفة الخاصة والوطنية والولاء المطلق، ويعرفون ما هو نافع للمجتمع، مما يخلق تعاطفاً مع الجهات الفاعلة غير الحكومية والتي تعد بصفقة أفضل وتسلط الضوء على تلك الفجوات.
وفي حين أن الفساد يمكن أن يؤدي إلى تهديدات جديدة، إلا أنه يمكن أيضاً أن يقوض قدرة الحكومة على الرد على تلك التهديدات وضمان الأمن. ويمكن أن يشكل الفساد خطراً أكبر على السكان وخاصة عندما ينتشر الفساد في جودة تطبيق المشاريع العامة والخدمية وحياة السكان اليومية في كل مناحي الحياة، وهو تطرف وإرهاب في جوهره ونسبة لما تؤول إليه النتائج، لأنه يدمر الإيمان بالعدالة والسلطة، ويفتح فراغاً يسمح للمفترسين بالتحرك الخفي، ولذلك الارتباط بين الفساد والأمن، هو علاقة عكسية، أي كلما زاد الفساد، قل تحقيق الأمن.