يبدو أن أميركا لن تتخلص سريعاً من إرث الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب الذي لا يصدق - ولا يريد أن يصدق - أنه -بات- فعلياً خارج البيت الأبيض، مستنداً في ذلك على قاعدته الجماهيرية بعد أن كسب أكثر من 70 مليون صوت في الانتخابات الأخيرة، وكان سبباً أساسياً في إشعال فتيل أزمة داخلية بين أنصاره وبين «الديموقراطيين»، وهو ما أثار قلق وتوتر أعضاء حزبه الجمهوري، وبدرجة أكبر من القلق الذي يشكله للحزب «الديمقراطي»، وأيضاً للمؤسسات السياسية والاقتصادية الفيدرالية والشركات الكبرى والجامعات العريقة مثل هارفارد ومراكز الأبحاث التي قدمت عدداً كبيراً من الشخصيات للحياة السياسية الأميركية، وكان لها دور بارز في صنع القرار عبر الإدارات الأميركية المتعاقبة.
من هذا المنطلق فإن شعار «أميركا الموحّدة» الذي رفعه الرئيس الأميركي الـ46 لحفل تنصيبه يوم بعد غدٍ لن يكون كافياً لإخراج أميركا من المأزق الذي تعيشه داخلياً، حيث تقع على جو بايدن مسؤولية كبرى على مدار السنوات الأربع المقبلة، ليس فقط للم الشمل، وهي التي تعاني من توتر عرقي شديد وانقسام حاد في الرأي، إنما لتضميد جراح البلاد كذلك من الأزمات الاقتصادية والصحية الحادة التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية منذ بدء انتشار فيروس كوفيد-19 العام الماضي، وفي ظل أحداث الفوضى غير المسبوقة التي بدأت مع انتهاء الانتخابات الرئاسية في نوفمبر الماضي، وما تلاها من عمليات فرز أصوات، ولجوء ترامب إلى المحاكم بدعوى عدم نزاهة الانتخابات، مروراً بإقرار المجمع الانتخابي بفوز بايدن، لتبلغ ذروة المشهد العبثي يوم 6 يناير الماضي أثناء المصادقة على نتيجة الانتخابات في مبنى الكونجرس، حين اقتحم أنصار ترامب مبنى الكابيتول وراح ضحية أعمال العنف التي وقعت خمسة أميركيين بينهم رجل أمن.
أميركا القطب الأقوى في العالم – وبعد ما حدث - اهتزت صورتها داخلياً وخارجياً، إلى درجة أن مراقبين اعتبروا أن الأحداث التي وقعت مؤخراً في عهد الرئيس ترامب تركت شروخاً وتصدعات في المجتمع الأميركي، وهي من دون شك تشكل خطراً يهدد نموذج الديمقراطية في أميركا التي تصدرت المشهد العالمي وتسيدت قراره الدولي منذ عدة عقود، وبالتالي فإن ترميم صورتها يحتاج إلى الكثير من العمل على الصعيدين الداخلي والخارجي.
كل ما سبق دفع قيادات في الحزب «الديمقراطي» للمطالبة بعزل ترامب، على الرغم من أن إجراءات عزله ستستغرق وقتاً طويلاً، ولن تظهر نتيجتها إلا بعد مغادرته موقعه، غير أن هذه الخطوة تكشف عن الهدف الحقيقي من ورائها، وهو حرمان ترامب من الترشح مجدداً في الانتخابات الرئاسية القادمة 2024.
مشكلة أميركا الحقيقية اليوم لم تعد في ترامب وحده، بل في حجم الغضب الذي يعتري ملايين الأميركيين في ظل وجود معسكرين، كل واحد منهما مستعد لاستخدام كل الوسائل لإزاحة الآخر، وكلا الطرفين استثمرا في الأحداث التي وقعت في أميركا منذ مقتل جورج فلويد على يد عنصر في الشرطة.
وفي ظل الأنباء عن تخطيط جماعات موالية لترامب لتنظيم احتجاجات مسلحة أثناء حفل التنصيب؛ فإن الأمن الأميركي قد يعتبر فيروس كورونا التي تسبب بمقتل ما يقارب 400 ألف شخص في أميركا؛ «منحة إلهية»، حيث إن ذلك سيحد كثيراً من تدفق الراغبين في حضور حفل تنصيب الرئيس المنتخب، الأمر الذي سيقلل من فرصة اندساس مخربين بينهم، وبالتالي يسهل على رجال الأمن الإمساك بزمام الأمور، الأحداث القادمة كثيرة في أميركا، فإرث ترامب ثقيل، ومهمة بايدن ليست سهلة على الإطلاق.