إن السنة التي ودعناها عرفت تغييرات مست روح التوازنات المختلفة، بما في ذلك المجالات الاقتصادية والصحية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإنسانية، أي جميع جوانب حياة الإنسان اليومية. ولا أخال أن التأثيرات الناجمة عن هذه التغييرات ستعرف زوالا سريعاً إذا اعتمدنا على الأرقام التي تأتي بها المنظمات الدولية أو على الواقع الذي تعيشه الدول. ففي تقرير أخير لصندوق النقد الدولي، تضمّن توقعاته الاقتصادية حول منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، أشار إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة سينكمش بنسبة 5 في المائة هذا العام. فالمنطقة التي تضم جميع الدول العربية وإيران، ستعاني من أسوأ أداء اقتصادي لها. ولا ينبغي أن ننسى أن المنطقة شهدت في السنوات الأخيرة سلسلةً من الصراعات الدموية في العديد من بلدانها، بما في ذلك سوريا واليمن والعراق وليبيا، قوّضت اقتصاداتها وزادت من معدلات الفقر فيها ولم تعد قادرة على تحقيق ما كانت تنجزه من خدمات قبل نشوب هذه الصراعات. وللعلم فإن معدلات البطالة تبلغ حالياً بين الشباب 26.6 بالمائة.
وإذا أخذنا دولة من الدول الصناعية الكبرى مثل فرنسا، فوفقاً لوزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، فإن البلاد مقبلة على ما هو أصعب اقتصادياً «أمام فيروس لا يلين». فقد أعلن خلال جلسة عبر الفيديو مع معهد أنستيتو مونتانيو البحثي «المزيد من حالات الإفلاس مقارنة بعام 2020». وهو ما يستلزم استمرار تقديم دعم «شامل» للقطاعات التي ما زالت متأثرةً بالأزمة الاقتصادية جراء تفشي فيروس كورونا، بما في ذلك قطاعات الفنادق والمطاعم والثقافة والرياضة.
ويطالب أصحاب الفنادق والمطاعم بمساعدات كبيرة على غرار ما تدفعه ألمانيا لشركاتها لكي يتسنى لهم دفع التكاليف الثابتة. وتجري المناقشات مع بروكسل التي يجب أن تتحقق من صحة مثل هذه الآلية. وموازاة مع ذلك، يسعى الوزير أن تؤجل البنوك لعام واحد بدء سداد القروض التي تضمنها الدولة والممنوحة للشركات، فيما تستحق الدفعات الأولى من حيث المبدأ في الربيع. كما أعرب عن انفتاحه على فكرة تقديم مزيد من الدعم للأكثر عوزاً، ربما من خلال إنشاء شيكات للطعام.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التقديرات حول التأثيرات الجيوستراتيجية على المدى الطويل للجائحة الحالية ليست دقيقة، فلا يوجد تصور مستقبلي واحد مؤكد حتى عام (2030). ومع ذلك يمكن التنبؤ بإمكانية حدوث بعض السيناريوهات المحتملة:
1- نهاية النظام الليبرالي العالمي.
2- عودة الغرب إلى الاستبداد السلطوي على غرار فترة الثلاثينيات.
3- نظام عالمي تهيمن عليه الصين.
4- أجندة دولية خضراء.
5- تغييرات مهمة تتعلق بالرعاية الصحية والتعليم.
ولا غرو أن اقتحام الكونغرس الأميركي من طرف المتظاهرين الذين كانوا يلوحون برايات بعضها كتب عليه «ترامب رئيسي»، والذين عاثوا في المبنى فساداً ودخلوا إلى قاعات والتقطوا صوراً لهم فيها، مرددين ما يقوله ترامب من أن الانتخابات الرئاسية مزورة، وتقديم العديد من الوزراء والمستشارين لاستقالتهم، وتوالي الدعوات إلى إنهاء ولاية الرئيس ترامب من خلال تطبيق البند الخامس والعشرين من الدستور.. وهي أمور لم نشهدها في تاريخ الولايات المتحدة. فكل هذه الأحداث المتتالية ستغير من نظرة أميركا، والعالم ككل، إلى الديمقراطية.
ويقيني أن ما يجري سياسياً في الولايات المتحدة، بما فيه تبعات المعالجة السيئة لجائحة فيروس كورونا المستجد، قد بدأ بإحداث تراجع نسبي في وزن قائدة النظام العالمي، وتراجع هيبتها على نحو كبير. وكل هذا قد يؤدي إلى استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في بعض المناطق. ولكن هذا لن يمنع من ولادة جديدة لليبرالية. فالأزمات الكبيرة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج غير متوقعة في العادة. فالكساد العظيم أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. غير أن ذلك الكساد نتج عنه لا محالة إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف.