صحيح أن العالم مر بالعديد من الأزمات، والتحولات وعانى ظروفاً قاهرة على إثرها، إلا أن هذه الأزمة بالتحديد، سيتبعها ولادة نظام عالمي جديد، سيما أنها ركزت كل التركيز على الأخلاقيات، وأبرزت الحس الإنساني، بشكل يتفوق على كافة الشكليات التي هُيأَت وقتها أنها أولوية، وتصاعد بعدئذ ما هو أبلغ أثر وأكثر أهمية. 
وفي حين علت حصة «الاقتصاد» من الاهتمام والعناية، وتدارس وسائل الدفع بها «التي وصلت في بعض الأحيان لتقديمها على حفظ الأرواح»، إلا أنها من منظور المفكرين كانت وسيلة «بشكل غير مقصود»، خادمة لمصالح معينة على حساب نزع الإنسان من منظومته القيمية، ليتحول إلى «آلة جباية»، ساعية للاكتناز «المادي» فقط. 
وفي إمعان ظاهرة «الإنسان الكلي» التي تعني امتلاك الحس الوجداني والأخلاقي من خلال العيش بصورة عميقة وشاملة، نتجت عن أسلوب حياة الإنسان المتحد بشكل كامل، ليظهر نمط تفكيره وخلجاته النفسية ومنظومته الدينية والاجتماعية، مع تماهِ كامل مع العالم الطبيعي، كما فسرها عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس، نجد أن العالم اليوم يعاني من هشاشة بالغة، بل انفصال عن منظوماته السابقة، وبخاصة في ظل سمو «النزعة الفردية» على غيرها، وهو ما آل إلى إنتاج مجتمعات بملايين الأفراد «وبخاصة المجتمعات الغربية»، تسعى لتحقيق ذاتها من أجل ذاتها فقط، ليقف منحصراً دون خيارات أخرى بين دائرتي «اقتصاد السوق»، و«النزعة العلمانية»، فوجد الفرد نفسه يعزف طوال حياته على وتر «نشاز»، بعيد كل البعد عن موسيقى الحياة التي تبني نوتاتها على المنظومة الأخلاقية المتوازنة، رغم أن الدخول في قلب الاقتصاد وتحقيق أميز عملياته المتمثلة بـ«عمليات التبادل»، مبني بالأساس على تحقيق منفعة وربح وفير وسريع، والتي يقف داعماً لها العلاقات «الإنسانية»، والتي تتداخل أيضاً مع دوافع إقامة العلاقات الدولية الساعية على الدوام لتحقيق مصالح المجتمعات، إذ تنظر لهم كإنسان لا كأعداد. 
جائحة «كوفيدـ 19»، والتي دفعت بكشف الهشاشة المتسترة، وإبراز الدبلوماسية الكفوءة، من خلال الإجراءات الواقعية والمساهمات، سامحةً للدول بالدخول لحيز التحدي، ومن باب القدرة على «التأثير»، ونشر الوعي في وقته الحقيقي، والحفاظ على ديمومة العلاقات الدولية، في وقت «العزلة الدولية»، التي أُقِحم العالم فيها، باعتبارها قوة الدفع لعجلة التطور وتخطي التحديات والعقبات المستجدة، هذه الجائحة هي ذاتها التي كانت السبب في الالتفات لعلم الانثروبولوجيا، ولإدراك عوز كافة القطاعات بأساسات داعمة له، باعتباره «اليد الحانية» على المنظومة الأخلاقية التي تتعرض للخطر بين الفينة والأخرى، من خلال دراسته للتصرفات البشرية المعاصرة، ويعنى بعلم الإنسان الثقافي الذي يبحث في بناء الثقافات البشرية، وأداءها وظائفها في كل زمان ومكان.

ونهايةً، فإن حضور البعد الثقافي والأخلاقي في كافة القطاعات، وتعميمه في مجالات المجتمعات ليصل إلى العالم، خاصة في القطاعات الاقتصادية، سيُنتج في مرحلة لاحقة أنماطاً أكثر تطوراً وسمواً في خدمة تلك المجتمعات، وهي ما أسماها الأنثروبولوجيون بـ «اقتصاديات الهبة»، وهو شيء غير موجود في مجتمعات «النزعة الفردية»، التي تبالغ في تحديثها الدائم لاقتصاديات السوق بعيداً عن الإمعان في ما يطمح له الوجود الإنساني على وجه الحقيقة.
وفي هذا السياق قال عالم الأنثروبولوجيا «كارل بولاني»:«الاكتشاف البارز من البحوث التاريخية والأنثروبولوجية، هي أن اقتصاد الإنسان، بشكل عام، كامن في علاقاته الاجتماعية، فهو لا يعمل كي يحافظ على مصالحه الفردية في حيازة السلع المادية، إنما يعمل لكي يحافظ على مكانته الاجتماعية، وتطلعاته ومقتنياته الاجتماعية».
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة