لا يستطيع عاقل أن ينكر دور التأمل في وجوه البشر وأحوالهم عن قرب شديد في تحصيل المعرفة. فالعلم ليس فقط في بطون الكتب، إنما أيضاً يقيم فوق جبين الناس وفي عيونهم، ويتهادى في سكناتهم وحركاتهم، الموزعة على تجارب متعددة، يحملونها فوق ظهورهم.
لهذا لا يضاهي أحد مسافر واع في فهم الناس، وهو من لا تشغله المتعة العابرة، ولا يقيم حوله وهو هناك في غربته الطارئة المؤقتة شرنقة من الخوف والتردد والتبلد والاستغناء الزائف، إنما يجدها فرصة للتأمل والفهم وهو يعاين الأماكن التي تمضي فيها حياة من سافر إليهم، ليلتقط في ذكاء تأثيرها عليهم.
ومن يفعل هذا سيكتشف دون عناء أن هموم الناس متشابهة، بغض النظر عن التفاوت في الفقر والغنى، وفي القهر والحرية، وفي الألوان والأعراق. فالإنسان هو الإنسان، أسمر كان أم أبيض أو أصفر، لديه قضية تشغله وتؤرقه أو يعيش لامبالياً هائماً على وجهه لا يلوي على شيء، فكل هذا قد يصنع ألواناً من اختلاف ليس من بينها بالقطع ما يمحو جوهر النفس الإنسانية وطبائعها.
إن هذا ما يلفت نظري دوماً في كل مكان سافرت إليه، أنظر إلى الناس مليّاً، وتشتعل الأسئلة في رأسي، عما يفعله الإنسان من أجل تحسين شروط الحياة، وكيف أن أي فرد سيجد نفسه أقرب إلى الآخرين من حبل الوريد إن تجرد من كل الدعايات والشكايات والتدابير المغرضة، والأهواء النفسية، والمنافع الاقتصادية، والمصالح السياسية، وكل ما يقيم بين الناس حواجز مانعة، وسدوداً صماء، تجعل كل منهم يعطي ظهره للآخر، ويصم عنه أذنيه، ويغمض عينيه كي لا يراه.
السفر ليس نزهة مشتاق فحسب، بل أيضاً وسيلة للوقوف على أشواق الناس في أي مكان وزمان إلى كل ما يشدهم إلى الأمام، مهما كانوا عليه من تمكن أو رفاه. والسفر طريق سالك نكتشف ونحن نمضي فيه، أننا جزء من هذا الكوكب، وكل من فينا واحد من الناس، وعليه ألا ينسى هذا أبداً. إنه شعور لا يمكن أن يحس به الإنسان وهو قابع في مكانه لا يبرحه، مستسلم لكل ما ينفره من آخرين هناك، يسمع عنهم ولا يسمع منهم، فتتوالى في مخيلته صور كريهة لهم، وينصت إلى كل مغرض ينعت هؤلاء دوماً بأنهم حقدة مسعورون طامعون متبلدون لا يشغلهم غير ما يملأ بطونهم وجيوبهم.
يكاد من يستسلم لهذه الصورة المصطنعة أن يصرخ في بدء أول سفر إلى الخارج يرى فيه أولئك الذين ظن بهم السوء ويقول: «إنهم يضحكون مثلنا، ويبكون كما نبكي»، وهي عبارة على بساطتها إلا أنها موجعة، لأنها تصور «الآخر» وكأنه صنف غريب من الناس، وربما ليس من بني الإنسان في شيء.
ورغم تدفق الصور في عالم يعيش في ثورة اتصالات حولته إلى غرفة صغيرة فإن الجالس في مكانه، ومهما تسارعت الصور أمام عينيه وانهمرت فوق رأسه، لا يمكنه أن يصل إلى المعاني التي يتحصل عليها مسافر ذو بصيرة. فمن رأى ليس كمن سمع، ومن خالط الناس وعايشهم ليس كالبعيد أو المبتعد عنهم.
قديماً عدد الإمام الشافعي خمس فوائد للسفر وهي: «تفريج همٍّ، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحـبة ماجد». لكن هذه الفوائد زادت الآن في نظر من يقدرون ما للسفر من عطايا لصاحبه. ولعل الفائدة الأكبر هي فهم الآخرين، وإدراك أن التعايش والمسامحة والتفاهم، ليس تفضلاً إنما ضرورة، لأن الناس حقا لآدم، ومستقبلهم مشترك، وعليهم أن يتعاونوا دوماً على البر والتقوى.