على غرار القواعد العسكرية للدول ذات النفوذ والقوة في التسليح وصناعاته المختلفة، قد باتت المرحلة تتطلب قواعد علمية وبحثية لمواجهة الحروب الفيروسية ومخاطرها الصحية التي من شأنها أن تجْهِز على ملايين البشر من سكان كوكب الأرض، وخلال فترات محدودة كما حدث أثناء جائحة كورونا، التي لا يزال العالم يعاني منها ويدفع فواتيرها من أرواح البشر ومن اقتصادات الدول التي تتالت متاعبها على مستوى الكوكب.
وحين أتحدث هنا عن الحرب الفيروسية أو البيولوجية، فلست بصدد تبني نظرية المؤامرة الكونية، بل المقصود أساساً هو الهجمات الشرسة لفيروسات مجهرية متعددة النوعيات ومتحوّرة السلالات، وهي كفيلة بتعطيل الحياة وربما إيقافها كلياً على مستوى واسع، لتكلّف العالم الكثير من الخسائر البشرية والاقتصادية. وهي خسائر تطال المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنتاجية والاستهلاكية وإيقاف مظاهر الحياة في معظم أجزاء الكرة الأرضية، الأمر الذي من شأنه وقف المنجزات الحضارية برمتها. وربما بات العالم اليوم على موعد مع مرحلة خطيرة ومتجددة تحتم على البشر ترتيب أولوياتهم قبل التفكير في أي حروب أو صناعات عسكرية. فالمسؤولية في الوقت الراهن منوطة بصنّاع السياسة العالمية وصنّاع الأسلحة والمتاجرة بها. والأولى في الوقت الراهن أن يعكف العلماء والباحثون على تطوير سبل حماية البشرية والانخراط في تسخير العلم للأمن البيئي ومواجهة الأمراض والأوبئة التي قد تجْهز على ملايين البشر قبل اكتشاف لقاحاتها. إن كل ما شهدناه في المرحلة السابقة من تفش لوباء كورونا، وكذلك التغيرات التي طرأت على سلالته، إنما يكشف هشاشة عالمنا، بحضارته المتقدمة، أمام فيروس مجهري، بينما كنا نعتقد أننا نعيش عصر الثورات التكنولوجية والسيبرانية والصناعية التي لا يشق لها غبار، ونحن في واقع الحال نرزح تحت وطأة العجز والانهيار أمام فيروس متناهي الصغر!
إن لم يخرج العالم من تجربة جائحة كورونا المريرة بجيوش علمية وترسانات بحثية بالغة القوة والتقدم وميزانيات فلكية تؤسس لقواعد بحثية على غرار القواعد العسكرية الكبرى، فإن البشرية حتماً ستكون في مواجهة مستقبل غامض من الأوبئة التي قد تعيدنا من حيث بدأت الحياة على سطح الكوكب. لم يعد كوكبنا يحتمل مزيداً من الحروب وصناعة الصواريخ والأسلحة البيولوجية والرؤوس النووية والطائرات الحربية المدججة بالتقنيات والقاذفات.. بل هو اليوم بأشد الحاجة إلى الأبحاث الطبية والعلمية على اختلافها.. فتلك هي الثروات الحقيقية، بينما مجاميع العلماء والأطباء والخبراء هم الجيوش الجديدة التي يجب الالتفات لتطويرها.
ومن المبشرات في هذا الصدد، والتي تزف أملاً كبيراً في المنطقة، ما تمخضت عنه قمة مجلس دول التعاون الخليجي في مدينة العلا بالمملكة العربية السعودية في دورتها الحادية والأربعين، يوم الثلاثاء الماضي، والتي كان من بنود بيانها الختامي «البند رقم 38» القاضي باعتماد إنشاء المركز الخليجي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، والذي يندرج تحت مظلة مجلس الصحة لدول مجلس التعاون، بغية تأطير العمل المشترك للدول الست أمام أي جائحة صحية، وتعزيز التكامل بين الجهود الخليجية لمواجهة أي تحديات صحية مستقبلاً.. وهذه بحد ذاتها بداية جيدة نحو تأسيس قاعدة بحثية وقائية نطمح إليها، ونعقد الآمال عليها.

*كاتبة سعودية