عامٌ انصرم ولم ينصرم، عام جديد على غير جديد، كأنما 2020 بمحمولاته الكثيرة والثقيلة وبأحداثه المفجعة وبنوازعه المتعددة قد لا يترك للعام الجديد فسحة ليكون جديداً، بل إن تداعياته هذه ستنعكس آثارها عليه، سواء بحلول لقضاياه أم بمراوحة حولها. فالعام المنصرم لا يتميز فقط بتفشي «كورونا»، وإصابة نحو ثمانين مليوناً في العالم، وإجهازه على نحو 1.7 مليون شخص، وتدميره مختلف المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنتاجية والاستهلاكية.. كأنما لم يَنجُ من شروره أي قطاع قائم وتاريخي وتليد، لكن، لا يتصدر «كورونا» وحده مسرح الأحداث الكبرى، المستجدة والسالفة، فلبنان شهد كارثة غير مسبوقة منذ مئات السنين، بتفجير مرفئه الشهير، التفجير الذي هزّ العالم، بموقعه التاريخي والحيوي، وبحجم الخسائر البشرية والمادية (نحو 200 قتيل وستة آلاف جريح)، ويقابله في أهميته، الحراك السيادي الذي انفجر في لبنان، بشبابه وشيبه، مطالبين بسقوط المنظومة السياسية المسؤولة عن انهيار الدولة والاقتصاد وإفقار أكثر من نصف اللبنانيين، من دون نسيان جوهر الحراك المطالب بسحب سلاح «حزب الله» ليقتصر وجوده على القوى العسكرية والأمنية.
كان يمكن أن يكون كل حدث من هذه الأحداث صالحاً ليكون «شخصية العام» أو «جاذبيته» لولا طغيان «كورونا» على كل ما عداها.. لكن هذه الأحداث مجتمعة، بمجرياتها واستحداثاتها والتباساتها، أدت إلى انبعاث وبروز هواجس الارتياب، وفقدان الثقة بالمؤسسات التاريخية «المرموقة»، وكذلك بمعظم الأنظمة والمفوضيات والمنظمات الصحية والقانونية والقضائية، ونظن أن أُولى ضحايا (كورونا) «وسواها» هي منظمة الصحة العالمية، التي لم يُشكك بمصداقيتها الرئيس ترامب فقط، بل العديد من الهيئات والأطراف التي رأت أنها تأخرت في استقرائها الواقع ومخاطر «كورونا» ومدى انتشاره. صحيح أن الجسم الطبي «من أطباء وممرضين وممرضات» قدم شهداء أثناء معالجته المصابين بـ«كورونا»، لكن سقوط أعداد منه أثار شكوكاً بجهوزيته، بل وبحجم تأهيله لمثل هذه المهمات. ومن عدم الثقة بهذه التنظيمات، إلى عدم الثقة حتى بالأشياء والناس، برزت بقوة نظرية المؤامرة عند مئات الملايين من الناس الذين اعتبروا أن «كورونا» مجرد مؤامرة عالمية لقمع الحريات، ونسف الديمقراطيات، وهذا ما جعل هؤلاء يرفضون وضع الكمامات والتزام التباعد الجسدي، ونظموا تظاهرات احتجاج رفضاً لقرارات الحجر والإغلاق في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، والولايات المتحدة.
ولم يقتصر فقدان الثقة بالآخر وبالمؤسسات أثناء مواجهة تنامي «كورونا» وتحولاته، بل امتد ذلك إلى التشكيك باللقاحات الجديدة التي بدأ استخدامها والتي أكدت مصادرها أنها فعالة بنسبة تقترب من 99 بالمئة. 
لكن تجاوزاً لهذه الأنماط من فقدان الثقة، أو الارتياب، رأى العديد من المفكرين والعلماء أن «كورونا» أظهر هشاشة الحضارة الراهنة، بإنجازاتها التكنولوجية والعلمية والاجتماعية.. وحتى السياسية! بل طاول ذلك مجال الاتصالات والإنترنت والإعلام. إن ما تعرض له العالم في مواجهة «كورونا» شكّل إحراجاً له ولحضارته، فأي حضارة هذه التي جابت الفضاء البعيد، وتطمح إلى «خلق» إنسان جديد.. وتعجز عن مواجهة فيروس متناهي الصغر! بل أي حضارة صلبة وقوية دمر مكوناتها وأسسها فيروس لا يمكن رؤيته إلا بالمجهر.
فقدان الثقة بالحضارة الحداثية وبالثورات العلمية والتكنولوجية والسيبرانية بمختلف تشكلاتها، هو «تتويج» لإعادة النظر بشتى الإنجازات والأنظمة والاستراتيجيات! ومع هذا، مازال هناك منجمون يتكهنون بصورة العالم خلال العقود الآتية.

*كاتب لبناني