يتساءل الكثيرون عند استعراض المنهج في الغرب وعند المسلمين: ما موقفنا من هذه الازدواجية المنهجية، بعد أن سادت مناهج الغرب المتعددة ونقلنا في ثقافتنا صراعها التاريخي والعلمي حتى توارى فكرنا المنهجي القديم تحت دعوى الفكر الديني، أو الفكر القديم في مقابل الفكر العلمي، أو الفكر الحديث؟ ما العمل أمام هذه التجزئة المنهجية الوافدة من الغرب والإجحاف بالموروث تكراراً للأفكار الشائعة، أو استسهالاً للتقليد؟
مما لا شك فيه أننا منذ مئتي عام، أي منذ فجر النهضة العربية الحديثة، ونحن نصارع التقليد، وندعو إلى إعمال العقل، سواء في تيار الإصلاح الديني، أو في الفكر السياسي الليبرالي، أو في التيار العلمي العلماني. وقد أصبح العقل والعقلانية والتنوير إحدى مطالب العصر. وإذا كنا ما زلنا نعاني من سيادة اللامعقول، وغياب الترشيد والتخطيط، فإن التنظير المباشر للواقع، اعتماداً على المنهج العقلي كحاجة من حاجات العصر، بصرف النظر عن نشأته في وعينا المعاصر من الوافد أو الموروث، ضرورة ملحة، نظراً لغياب التخطيط الكلي في الحياة الخاصة والعامة. وكثيراً ما حكم المفكرون العرب المعاصرون على حياتنا الفكرية والثقافية بالخطابة الإنشائية والشعرية والصوفية والكلامية والانفعالية، مع التركيز خاصة على الخطابين السياسي والإعلامي. وهنا تبدو الحاجة إلى المنهج العقلي الواضح بخطواته من أجل المساهمة في الانتقال من مرحلة الخطابة إلى مرحلة التفكير، ومن بلاغة الإنشاء إلى منطق الفكر.
ولما كان العقل مجرد أداة، فإن موضوع التفكير هو الواقع والتحديات العصرية من تخلف وتجزئة وقهر وسلبية وضياع. ولا يمكن معرفة هذا الواقع معرفة انطباعية كما يفعل الروائي أو الشاعر، معرفةً كيفية خالصة لا يختلف عليها المبدع والمتلقي. المعرفة الإحصائية الكمية ضرورية لمعرفة مكونات الواقع والبنية الاجتماعية. فلغة الإحصاء خير دليل على صدق الفكر: آثار الاعتماد على الخارج، مدى التجزئة وعمقها ومظاهرها وأسبابها، ألوان القهر وأنواع القوانين المقيدة للحريات وكيفية صدورها، مدى التبعية في الغذاء والدواء والتعليم والتصنيع، مقدار السلبية في المشاركة في الحياة العامة بمؤشرات دقيقة خاضعة للقياس. لم يعد الفكر خطابةً، بل هو حكم كمي من أجل تغيير الواقع وإعادة التفاعل بين مكوناته وتوجيه مساره. هكذا فعل الأصولي القديم في مناهج البحث عن العلة مثل السير والتقسيم، إحصاء العلل إحصاء كاملا ثم تحييدها إلا واحدة تخضع للتجربة لمعرفة هل هي العلة الفاعلة أو المؤثرة أم الملائمة أو المناسبة. ومن هنا لا يستبعد التنظير المباشر للواقع المنهج التجريبي الإحصائي الاستقرائي الذي يستطيع إعطاء صورة للواقع المعبَّر عنه بالقول والتنظير له بالفكر.
كما يتضمن التنظير المباشر للواقع، بالإضافة إلى مناهج العقل والاستدلال من ناحية ومناهج الحس والتجربة من ناحية أخرى، مناهجَ الإدراك المباشر، وتحليل التجارب الحية الفردية والاجتماعية، الإحساس بالناس والتاريخ، بالأزمة والعصر، بالماضي والحاضر، وحمل هموم المستقبل للعالم والإنسان. فالعلم قضية، والبحث التزام، والمعرفة تحقق.
إن التحدي الآن ليس هو الأزمة بل المدخل إليها، ليس القضية بل طريقة التعامل معها ومعالجتها. فالأزمة في المنهج قبل أن تكون في الموضوع. والموضوع واحد منذ مئتي عام: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدم غيرهم؟ كما سأل شكيب أرسلان. أو بعبارة أخرى؛ أسباب التخلف وشروط النهضة كما عرضها مالك بن نبي. والأزمة في كيفية المقاربة، أي التشخيص والحل، الوصف والمخرج، الإدراك والتغيير. لذلك كانت معظم الاكتشافات الفكرية والعلمية ونقاط التحول في تاريخ الحضارات اكتشافات في مجال المنهج وتحولاته. وقديما قال عمر بن الخطاب إن نصف الإجابة في طريقة وضع السؤال.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة