صار إطلاق «العولمة» على الزمن الحاضر سائداً في وسائل الإعلام، بل وفي الدراسات الأكاديمية. لكن الاتفاق يتوقف عند هذا الحد، لأنه عندما يجري الخوض في ظواهر ومظاهر العولمة فإن الخلاف يشتد، ليس فقط لجهتي السلْب والإيجاب، بل ولاعتبار الاستمرارية أو البدايات. فهل «العولمة» ظاهرة أو ظواهر جديدة ولَّدها السوق الشامل، والتكنولوجيات المتقدمة، ووسائل الاتصال؟ أم أنها تطورٌ جديدٌ ضمن أزمنة الحداثة أو حِقَبها المتتالية منذ القرن السابع عشر؟
لكن ما أهمية التاريخ إذا كان على البشرية أن تواجه تحديات العولمة وميزاتها وأن تتعامل معها بالسياسات الملائمة للعيش والاستمرار؟ ألان تورين وهابرماس وتشارلز تايلور ومفكرون آخرون يعتبرون، تبعاً لكارل ياسبرز، أنّ العولمة أو العالمية قديمة. وأنها شهدت زماناً فاصلاً هو زمان التنوير (من السابع عشر إلى التاسع عشر) ظهرت فيه حيواتٌ إنسانيةٌ جديدةٌ ومقولات وممارسات في التسامح والحريات وفلسفة سياسية قائمة على العقد الاجتماعي المفتَرَض.
إنما هناك تيار كبير من أعلامه داريدا وفاتيمو ورورتي يتحدث عما بعد الحداثة. وهو يركّز على تصورات التنوير، وعلى الفظائع التي جرت في أزمنته ضد إنسانية الإنسان وضد الطبيعة. لذا لا بد من القيام بمراجعات جذرية لمقولات التنوير وتجاربه. وفي هذا الصدد لا يمكن القول إنّ التنوير ليس مسؤولاً عن فظائع الحروب. فهتلر وموسوليني والديكتاتوريون الآخرون وصلوا للسلطة في انتخاباتٍ حرة. والرأي العام والانتخابات والدولة الدستورية.. كل ذلك من مقولات التنوير ومطالبه، ومن منتجات الثورة الفرنسية!
هذه النقاشات ما تزال جاريةً وإن فقدت بعض زخمها بسبب ظهور تحديات جديدة بالفعل ما استطاعت الدول الديمقراطية مواجهتها أو تجاوُزَها. وليس المقصود «كوفيد-19» بالذات، بل ما هو أعمق وأكثر قدرةً على الاستمرار، والمعني هو ظاهرة الشعبويات التي تجتاح أوروبا وأميركا منذ عقود، وفي العقدين الأخيرين بالذات. فالأكثريات الشعبوية لا تغيِّر الحكومات وحسْب، بل تستطيع تغيير الدساتير التي تنص على الحقوق الأساسية لمواطني هذه الدول، لصالح التضييق والتمييز.    
كل النقاش السابق يدور في أميركا وأوروبا، وهو وإن كان يصغي لوجوه نقد مفكري ما بعد الحداثة، يعتبر أنّ الدولة المدنية أو الليبرالية الديمقراطية النابعة من زمن الأنوار، هي أفضل ما وصلت إليه البشرية لإدارة الشأن العام والإنساني، وينبغي استمرار المساعي في تطويرها ودائماً على أساس التلاقي بين القيمة والحق.
لكن عندما تجري النقاشات حول الدولة المدنية في بلدانٍ مثل مصر ولبنان، فإن النقاش أو الجدال يتخذ مسارب أُخرى. ففي مصر تذهب قلةٌ من المثقفين البارزين والإعلاميين إلى أن تدخل الأزهر في الشأن العام يُحدثُ شوائب في النظام المدني المصري. بينما يخشى بعض المثقفين والسياسيين اللبنانيين على تحقق الدولة المدنية من النظام الطائفي، الذي يعطي زعماء الطوائف سلطات سياسية. إنما الذي يخيَّلُ إليّ أن النقاشين غير حقيقين، بل وغير صحيحين. فالأزهر بحسب المادة السابعة من الدستور الحالي يختص بالدعوة الدينية وصَون العربية. وهو مثل الإفتاء والأوقاف من مؤسسات الدولة. وإذا كان يتدخل ضد نشر كتابٍ أو الرد على برنامج تلفزيوني، فالاحتكام يكون إلى القضاء المدني المصري. ولا مشكلات حقيقية لا على الحريات الدينية، ولا على حرية التعبير. وإنما هو حبُّ الظهور والتحدي من جانب مثقفين وإعلاميين. أما في لبنان فلا مضمون حقيقياً للجدال، لأن التوتر هو على تقاسم الحصص، وليس على إلغاء الطوائف أو حقوقها!


*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية