دخلت لـ«تويتر» في سبتمبر 2011، وكانت نيتي في البدء أن أتعرف على هذه الوسيلة وأستكشف الحال الثقافية للجيل الشاب، بما أن «تويتر» تتيح مجالاً حراً للتعبير دون حاجة للاستعانة بوسيط يفرض وصايته على لغة التعبير أو فكرته أو مستوى الكاتب والكاتبة حسب الشكوى القديمة من عدم إتاحة الفرص للنشر للجيل الشاب، ذاك هدفي مع نية جعل المغامرة مغامرة بحثية لكشف ثقافة الجيل وتحولاتها النوعية. وقد كتبت كتاباً عن (ثقافة تويتر) نتيجة لهذا الاهتمام المخطط له سلفاً، ولكن أمراً آخر حدث وأثار اهتمامي، وهو تواتر الاستنكار علي كلما غردت بأمر سياسي، ويأتي اللوم على صيغة استنكار بريء كوني دخلت في السياسة مع وصف السياسة بالتقلب. وأنها لا تليق بمثقف وناقد باحث.
هذه خلاصة الملاحظات، وهي ملاحظات تنم عن حس بالطهورية تتوخاه النفوس لتترفع عن (وسخ) السياسة. وهذه المفردة تشيع في وصف كل ما هو قول سياسي حتى وإن كان مجرد رأي. ومهما بلغت بنا الطهورية فإن السؤال هو: هل يستطيع أي إنسان مهما كانت صفته أن يُطهّر نفسه عن القول السياسي! مع أنك لو صمت سياسياً فستشعر بحال من الاحتباس الذهني، يشبه الاحتباس الحراري وما يترتب على الاحتباس الحراري من تغيرات تظهر على وجه الأرض وتخيف من يرقبها، وهذا مظهر يحدث كذلك مع حبس الأفكار، والفكرة إذا حضرت فإنها ستتفجر حتماً عبر كلمات، وكلما اشتدت الفكرة أو انحبست فستتحول إلى براكين شعورية ولغوية كما قال «بايرون» واصفاً الحالة الشعرية للشاعر بأن القوافي الشعرية مثل البراكين للأرض، لو لم تحدث لانفجرت الأرض من داخلها، ولكن الحمم البركانية تنفس عن الاحتقان وتمنع الانفجار، وكذا هي اللغة بعامة، حيث إنها تساعدنا على إفراغ مخزوناتنا الشعورية والعقلية، وكلما اعترانا ضاغط شعوري، فإنه يتطلب تنفيساً مباشراً لكي لا ننفجر من الداخل.
على أن رأي المثقف ليس بالضرورة ثقافة، تماماً كما أن رأي الفقيه ليس ديناً، وبالتالي فإن رأي المثقف ليس سياسة لأن المثقف ليس سياسياً. ورجال مثل إدوارد سعيد أو تشومسكي، كتبوا في السياسة ولن يقول أحد إن كتاباتهما السياسية تدخل في تخصص النظريات الألسنية أو النظرية النقدية، ومثلهما سيكون عقلانياً في بحوثه ولكنه حتماً عاطفي في كتاباته السياسية وعماده هنا هو الانطباع والتعبير عن الانطباع، تماماً مثل لو أن أحدهما كتب شعراً فإنه في هذه الحال ليس باحثاً ولكنه معبر عن حالة شعورية، ولا شك أن كل واحد منا كائن انفعالي بالضرورة بما أنه بشر يحس ويتأثر، ويحتاج لأن يعبر عن أحاسيسه. وقد تظهر على شاكلة حمم بركانية، ونتذكر هنا مقالات إدوارد سعيد عن ياسر عرفات والانفعالية الطاغية على خطاب سعيد في نقده لعرفات، وهي تنم عن شعور بخبية الظن أكثر مما كانت تعبر عن نظرية سياسية. وهو مثل غيره سيكون عاطفياً في رأيه السياسي مع ميل للمثالية والنقاء وكأنه يعلن عن ضمير وليس عن براجماتية.
ومثله تشومسكي في كتبه السياسية الذي لم يك فيها فريداً ولا خارقاً ولا يمكن وصف عمله بالنظرية ولا بالفلسفة، وكثير غيره وقبله قالوا ويقولون الشيء نفسه عن إعاقة الديمقراطية وازدواجية المواقف وحالات العمى الثقافي، ولكن المختلف هنا أن القول حين يأتي من شخص بمقام تشومسكي ناقداً لسياسات البيت الأبيض، فإنه يعطي قوة معنوية للفكرة وسنداً للكثيرين الذين ظل صوتهم يقصر عن بلوغ غايات علياً، ولذا فالمقام هنا يعزز دور المقال، ومرجعيات القائل تحمل رمزية تجعل الكلام أشد وقعاً وأبلغ تأثيراً، والدليل العملي على ذلك هو مبيعات كتب تشومسكي وترجمات كتبه في كل اللغات، لأنهم يرونه قد قال ما يريدون قوله، وخاصة عندنا نحن العرب حين نراه ينقد إسرائيل وهو اليهودي الأميركي، مما يجعل نقده يشفي توق النفوس لجعل صوتها يصل عبر وسيلة ذات قوة معنوية.
وظهور الشعبوية دفع كل مثقف لكي يجهر بالامتعاض، وهي ظاهرة مرعبة تعني إخفاق المشاريع الكبرى في التعددية الثقافية، وهي هجمة مضادة تحركت معها القوى القديمة لتعزز نظريات ذات معنى إقصائي مثل القول إن العدالة والحرية للأقوى كما ورد عند أفلاطون، ويطبق عملياً في المجتمعات التي تزعم الديمقراطية، لكنها تسلك مسالك غير عادلة، ولا تعتمد المساواة في الحكم، وكأنها تعزز مقولة لا حرية لمن لا يستحق الحرية، مما يجعل المعاني تحت سلطة القوي وهو من ينتجه ومن يفسره ومن يصممه ليتسق مع شرط القوة وليس شرط العدالة.
والكون البشري مسيس بالضرورة مذ عرف الإنسان الحاجة لتنظيم معاشه المشترك وتنظيم علاقاته مع الغير، ولا عجب أن يكون أول كتاب في الفلسفة يتضمن أطروحة سياسية التنظير لشروط العلاقات بين سكان المدينة، وهو كتاب جمهورية أفلاطون، ثم حين تعمقت مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة احتاجت للانتظام مع مفهوم التعددية الثقافية لتشكل ما سميته (التفاوضية الثقافية) في كتابي الليبرالية الجديدة - الفصل الخامس، على أن الفلاسفة والفقهاء والشعراء وهم أبرز فئات النخب تاريخياً مسيسون.
وفي «تويتر» دخل أكاديميون ومهنيون وأطباء ومهندسون، ونساء كما الرجال، ووجد الكل نفوسهم يغردون خياراً أو اضطراراً بتغريدات سياسية، وهذا شرط للحس بأنك مع العالم وفي العالم، وقبل «تويتر» كان يسعهم ظرف الغالبية الصامتة، لأن ليس لهم وسيلة يعبرون بها. أما وقد حضرت الوسيلة، فإن شرط الوسيلة أن تستنطق الداخل فيها، وسيتحول بالتالي من قناع الغالبية الصامتة إلى حال الأطرش في الزفة لو ظل في «تويتر» دون أن يشارك الناس برأيه في معطيات الحياة العامة، وهو لهذا سيجد نفسه مدفوعاً للجهر بموقفه، وهذا ما تكشف عنه حال حسابات «تويتر».