نسمع ونقرأ في الأسابيع الأخيرة استعمالاً غير متناهٍ لكلمة «الاستراتيجية» من طرف المسؤولين والمؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية والهيئات الصحية والأفراد العاديين.. في معالجتهم للقضايا الداخلية والمشاكل الجهوية أو في مواجهة «كورورنا»... فقد اتهم الرئيس الفرنسي مؤخراً في مقابلة نشرتها مجلة «جون أفريك»، كلا من روسيا وتركيا باتباع «استراتيجية» تهدف إلى تأجيج مشاعر معادية لفرنسا في القارة الأفريقية، مستغلتين «نقمة ما بعد حقبة الاستعمار». وقال ماكرون: «هناك استراتيجية يتم اتباعها، ينفذها أحياناً قادة أفارقة، لكن بشكل أساسي قوى أجنبية مثل روسيا وتركيا، تلعب على وتر نقمة ما بعد حقبة الاستعمار»، مضيفاً القول: «يجب ألا نكون سذجاً: العديد من الذين يرفعون أصواتهم ويصورون مقاطع فيديو، والموجودين على وسائل الإعلام الفرنكفونية، يرتشون من روسيا أو تركيا».
وفي الولايات المتحدة الأميركية، عبّر ترامب عن سخطه عندما أتت عملية إعادة عد أصوات الانتخابات الرئاسية في ولاية جورجيا عكس تطلعاته، وقال إن مسؤولي الولاية يتبعون «استراتيجية» يرفضون من خلالها «السماح لنا بالتدقيق في التوقيعات التي ستظهر مئات الآلاف من بطاقات الاقتراع غير القانونية». وأشار إلى أن ذلك يحرِمه ويحرِم حزبَه من «فوز كبير». وبعدما أخفقت محاولاته في جورجيا ومُني بسلسلة من الهزائم في ساحات المحاكم، ذكرت مصادر مطلعة عدة أن فريق ترامب يعلّق آمالَه على «استراتيجية» تقتضي محاولةً لدفع المجالس التشريعية، الخاضعة لسيطرة «الجمهوريين» في ولايات حاسمة أخرى فاز بها بايدن، لتعليق النتائج وإعلان ترامب فائزاً بالتصويت. 
أما في الجانب الصحي، فإن «مودرنا» و«فايزر» و«أسترازينيكا».. هي أسماء مختبرات طبية شهيرة انخرطت في سباق محموم خلال الأشهر الأخيرة لتطوير أول لقاح ضد «كوفيد - 19». وفي حين أن النتائج التي تم الإعلان عنها في نوفمبر الثاني مشجعة للغاية، فإن الخبراء يؤكدون أن لكل لقاح محتمل خصائصه انطلاقاً من «الاستراتيجية» البحثية للمختبرات: منهج اكتشافه، والجرعة التي يتم تناولها، وطريقة التخزين.. إلخ. ويحاول كل مختبر اتباع «استراتيجية» تشغل الساحة الإعلامية بلقاحه المنتظر بغرض جمع أكبر عدد من الطلبات المسبقة عليه.
وهذه الأمثلة تعطينا اليقين بأن كلمة الاستراتيجية موجودة على ألسنة كل الفاعلين في السياسات العمومية للبلدان، سواء في المجال الأمني أو السلمي أو صناعة السياسات الاقتصادية أو الصحية أو الثقافية.. فما هو الأصل وما المعنى الدقيق لكلمة الاستراتيجية في أدبيات الخبراء؟ 
إن كلمة الاستراتيجية تحمل في مدلولها اللاتيني Stratos أي الجيش وageîn أي إدارة، لذلك فهي تعني علم وفن إدارة مجموعة قوى الأمة في الجانب السياسي والحربي والاقتصادي والمعنوي لقيادة حرب أو إدارة أزمة أو للحفاظ على الأمن. وفي معناها العام، تشير الكلمة إلى صياغة السياسة العمومية تماشياً مع مجموع القوى المتوافرة والرهانات والإمكانيات، وليس حصراً في المجالات العسكرية أو الدفاع وإنما أيضاً في المجالات الاقتصادية والتجارية والصناعية والمالية.. إلخ. كما أن كبار المنظرين الاستراتيجيين، عرّفوا الاستراتيجية على أنها «فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب»، كما قال كلازفيتز. أما مولتكه فعرّفها على أنها «الإجراءات والتدابير العملية للوسائل الموضوعة تحت إمرة القائد ليحقق الأهداف المطلوبة».
والاستراتيجية من خلال ذينك التعريفين تشير إلى فن وعلم هما عاملان لمعادلة توازنية واحدة جعلتها تنمو وتتسع لتشمل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. 
والاستراتيجية لصيقة بالمستقبل وبعدم اليقين، وذلك لأنها تُعنى بالمستقبل. كما أن الاستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافيين يجعلانه يستنبط أهم مقومات المستقبل اللايقيني، أو بالأحرى شبه المجهول، ليصل إلى الأهداف المرجوّة ويحقق الغايات المطلوبة. فالاستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفاً. 
وفي مؤلفه «الطبيعة والطبع» ميّز كريكوري باتيسون بين نوعين من التصرف في مجال عدم اليقين وضرورة التأثير القويم فيه، وذلك بالرجوع إلى مثالَي الرمي بالبندقية والرمي بالسهم. ففرَّق بين الرامي الذي يعتد بجهاز التسديد من أجل الرمي، والرامي الذي يقوم بعملية الرمي بالاعتماد على التفاعل مع الهدف وتعديل عملية الرمي بناءً على خط مسار الهدف. النوع الأول يعد من قبيل «المعايرة»، بمعنى تنفيذ برنامج معين، أما الثاني فهو «تفاعلي»، وهو عبارة عن استراتيجية مبنية على مقاربات حسابية تتوخى الدقة حتى إصابة الهدف.