أكثر من 900 حالة صراع على مر التاريخ سببها المياه وفق قاعدة بيانات النزاعات المتعلقة بالمياه التي يحتفظ بها معهد المحيط الهادئ، وحدّة هذه الصراعات تتسارع وخصوصاً بين الدول الواقعة حول الأنهار، أما نصيبنا نحن العرب من هذه الأزمة، فهو نصيب الأسد من الفرات إلى النيل.
على مر العصور ارتبطت الأطماع السياسية بالقضايا المائية، فتركيا مثلاً وعبر سدودها سعت وتسعى إلى تحقيق أهداف سياسية، وقد عملت بالفعل من خلال تحكّمها بمياه الفرات على تغيير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، حيث أجبرت دمشق على التنازل عن لواء اسكندرونة مقابل أن تكمل المياه طريقها إلى الأراضي السورية، وعقدت معها اتفاقية للمياه تشمل مياه العاصي بوصفه نهراً دولياً في مقابل زيادة حصتها من مياه الفرات.
وهذا الأمر لا يختلف عما هو قائم بين العراق وإيران بالنسبة لشط العرب. فعلى الرغم من استجابة بغداد للكثير من المطالب الإيرانية إلا أن طهران ما تزال مستمرة في تحويل مسارات الأنهار والروافد، التي تنبع من أراضيها وتصب في شط العرب والأراضي العراقية.
أما الخلاف حول «سد النهضة» فهو يحتل الآن صدارة المشهد من جهة الاهتمامات الإقليمية والدولية، إذ لا يمكن لأحد إغفال مخاطر السدود الإثيوبية التي تم إنشاؤها على نهر النيل.
والخلاف القائم بين مصر وإثيوبيا ليس حول أحقية إثيوبيا بإنشاء سد من عدمه، إنما على الأثر الذي يخلّفه هذا السد على مصر دولة وشعباً، إذ لا يمكن حرمان أكثر من 100 مليون إنسان من مصدر مياههم الوحيد، ذاك الذي يشربون منه وتعتمد عليه زراعتهم وصناعاتهم وطاقة البلد الكهربائية. فالنيل هو عصب حياة المصريين منذ أيام الفراعنة.
منذ آلاف السنين عاش الناس في مصر على ضفتي النيل، وفي منطقة الدلتا الخصبة، ومنه سقوا زرعهم، وفيه انتقلوا بين شمال وجنوب البلاد. واستمر الحال على ما هو عليه حتى يومنا هذا، فرغم الزيادة السكانية الهائلة التي حدثت إلا أن المساحة المشغولة من التراب المصري لا تزيد عن 12% من أصل مليون كم2. ولا شك أن هذا الرقم يعكس حقيقة ارتباط حياة المصريين بالنيل، وهو أمر لا بد من وضعه بعين اعتبار أي دولة أفريقية يمر النيل عبر أراضيها، فإن كان من حق دولةٍ الاستفادة من مصادرها المائية بالتحديد، فإنه من واجبها أيضاً عدم حرمان دولة أخرى من هذا الحق.
إن الأزمة القائمة بين إثيوبيا ومصر معقدة وتفرض ظلالها على جميع الدول الواقعة على النهر، وبالتالي عليهم جميعاً البحث عن أفضل السبل والحلول التي من شأنها تسهم في استمرار بناء تلك الدول من دون أن يطغى طرف على طرف آخر، مع ضرورة التفكير في تنمية إيرادات النهر من مصادر المياه المختلفة بهدف الوصول إلى الطموح الذي تتحقق فيه وفورات مائية لكل دول النهر.
يؤكد الخبراء والمعنيون أن المقدار المستغل من مياه أمطار حوض النيل تتراوح نسبته بين 5% و7% فقط، وهو ما يعني ببساطة أهمية وجود استراتيجية قادرة على تنمية إيرادات النيل المائية، سواء باستثمار مياه الأمطار، وتعظيم الاستفادة من تدفق المياه في مجاري النهر وروافده، وتقليص الفاقد إلى أقصى حد ممكن، إلى جانب تعزيز التعاون المشترك في مشاريع الزراعة وإنتاج الغذاء.
إن الهامش كبير للاتفاق على تنمية إيرادات نهر النيل وتوزيع الماء على الدول الأعضاء طبقاً لمعادلة موضوعية ومنصفة تحقق العدالة لجميع الأطراف، وكلنا أمل أن تفضي التحركات المصرية الدبلوماسية الأخيرة إلى نتائج جيدة، وأن يكون دور السودان فاعلاً من جهة تقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا، إذ لا بديل منطقياً عن التفاوض.