السودان يعيش «الربيع السياسي» بعد مسار طويل في فصول متقلبة بين قيظ حارق وبرد قارس ورياح عاتية ألقت بالسودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وظل محكوماً بالعقوبات المغلظة لثلاثة عقود، دفع فيها الشعب السوداني ثمناً باهظاً للغاية، وتحول من سلة غذاء العرب لأفقر العرب، تتلازم الخرطوم وعدن في كثير محطات، فكلاهما عرف الاستعمار البريطاني، وشهدت الخرطوم وعدن ثورات تحررية، قادت بشكل أو بآخر لجلاء المستعمر، ووصول اليساريين لسلطة الحكم.
اليمن الجنوبي كالسودان عرف حماسة عالية السخونة مع الثورة الفلسطينية بحكم اليسارية الطاغية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين المنصرم، مع اندفاع أكثر من قبل قادة الحزب الاشتراكي في عدن، بحيث منحوا قادة حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة والمدنية على حد سواء امتيازات واسعة، استغلتها قيادات الحركات الفلسطينية في السبعينيات الميلادية لتحويل عدن كممر عبور للمطلوبين الدوليين أمثال كارلوس (الثعلب)، الذي منح جواز سفر يمني جنوبي لتنفيذ عمليات إرهابية لصالح القوى اليسارية، التي كانت تنشط خلال تلكم المرحلة.
لعبت القيادات الفلسطينية الكبرى ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمه أدواراً متقدمة في النظام السياسي لليمن الجنوبي، وشكلت تلك القيادات حجر الزاوية في أحداث يناير 1986م، والتي عمقت الأزمات السياسية والاقتصادية، وشكلت بداية انهيار المعسكر الأحمر في نهاية التسعينيات، وقادت اليمن الجنوبي للوحدة مع اليمن الشمالي في مايو 1990م، وكما كان الاندفاع منذ الاستقلال في 1967م كان أيضاً الاندفاع في الوحدة الاندماجية حاضراً وطاغياً، وأدى لفش التجربة الوليدة بحرب صيف 1994م، التي طعنت فيه القيادات الفلسطينية عدن من خاصرتها، وأعلنت تأييدها لقوات صنعاء في جحود لما قدمه الجنوبيون على مدار عقود.
وكحال الخرطوم التي سقطت بيد تنظيم «الإخوان»، سقطت عدن بقبضة حلف قبلي ومذهبي على رأسه تنظيم «الإخوان»، الخرطوم وعدن كانتا ضحايا شعارات اليساريين العرب، وانتهى الحال أن العاصمتين تحولتا إلى مدن أشباح، بعد أن طغى «الإسلاميون» على أثر امتلاكهم للسلطة السياسية، وإنْ كان حال عدن أكثر دموية نتيجة الحروب المتواصلة فيها نتيجة الاستقطابات السياسية الحادة، ومع ذلك ظهر في عدن الحراك الجنوبي السلمي عام 2007م تطور مع تقدم الأحداث ليتحول إلى «المجلس الانتقالي الجنوبي»، في حين أن السودان ولد فيه تيار ثوري مدني استطاع جمع التيارات السياسية والعسكرية تحت هدف إسقاط حكم «الإخوان» ثم اقتلاع التيار «الإسلاموي» من جذوره عبر المجلس السيادي السوداني.
متلازمة عدن والخرطوم لا تنفك إطلاقاً، ففيما كان الحراك في عدن سلمياً ماثله حراك الخرطوم السودانية، فكلتا الحالتين تتماثلان في بلوغهما النضج السياسي، ولعل ما وصل له السودان من مقايضته مع الولايات المتحدة للخلاص من سنوات العزلة الدولية، وإبرام الخرطوم لاتفاق السلام مع إسرائيل، يعزز فكرة أن السودان الجديد سودان عقلاني يحدد خياراته وقراراته وفقاً لمصلحة الدولة السودانية، وكذلك حدث مع الجنوبيين الذين انخرطوا مع «التحالف العربي» بقيادة السعودية والإمارات لمواجهة التمدد الإيراني، واستطاعوا أن يسجلوا للعرب الانتصار الوحيد على الجيوش الإيرانية الطائفية العابرة للحدود.
واحدة من المقررات المهمة الصادرة عن عدن، وتحت راية «المجلس الانتقالي الجنوبي» تصنيف «الإخوان» وكافة التنظيمات «الإسلاموية»، على أنها إرهابية يحظر نشاطها في الرقعة الجغرافية الجنوبية، وفي المقابل تتمنع الحكومة اليمنية (الشرعية) عن اتخاذ قرار بحظر أنشطة تنظيم «الإخوان» أو غيرهم، نظراً للتشكيل البنيوي للشرعية منذ إسقاط حكومة خالد بحاح، ففي عدن وبقية المحافظات الجنوبية خطاب سياسي وشعبي وصل لمرحلة النضوج السياسي، فالتفكير بلغة المصالح بات هو الحاضر في الذهنية الجنوبية التي ترى تشكل الشرق الأوسط وفق معايير القرن الحادي والعشرين، وترغب أن تكون جزءاً فاعلاً في هذا الشرق الأوسط، لتتخلص من إرث الفشل السياسي، وتضع حداً لمطامع «الإخوان» في عدن وبحر العرب.

*كاتب يمني