أنجزت دولة الإمارات العربية المتحدة خطوات سريعة في تنفيذ استراتيجيتها الفضائية التي أُعلنت في مارس 2019، بهدف توجيه الهيئات والمؤسسات المعنية بقطاع الفضاء لدفع العمل فيه عن طريق وضع برامج ومهمات طموحة، وتعزيز جهود البحث والتطوير، وتوسيع نطاق العمل في هذا القطاع الذي يعتمد على أبحاث تُمثل قاطرة مهمة للتقدم. وقد بدأت في 29 سبتمبر الماضي الخطوة الثالثة في استراتيجيتها المتعلقة بالفضاء، إذ أعلنت مشروعها الكبير لاستكشاف القمر، بعد 70 يوماً فقط على الخطوة الثانية، وهي إطلاق مسبار الأمل إلى كوكب المريخ في 19 يوليو، في مهمة بحثية علمية استكشافية لمناخه وطبقات غلافه الجوي المختلفة، وللإجابة عن أسئلة بالغة الأهمية، في مقدمتها عوامل فقدان غازي الأكسجين والهيدروجين في هذا الغلاف، عبر تتبع مسار ذرات هذين الغازين في خروجهما منه، وكيفية تغير مناخه على مدار اليوم، وفي فصول السنة. ومن هذه الأسئلة أيضاً طبيعة العلاقة بين أنماط المناخ في المريخ ومدى ارتباطها بتضاريسه المختلفة، وأسباب تآكل سطحه، وغيرها من الأسئلة التي سيؤدي فك ألغازها إلى تعزيز المعرفة العلمية بالفضاء الخارجي، وتقديم خدمة جليلة إلى البشرية، وفتح آفاق جديدة أمام الدول والمؤسسات العلمية والبحثية المعنية بهذا الفضاء في أنحاء العالم.
وقد سبق هاتين الخطوتين الكبريين إرسال أول رائد فضاء إماراتي (وعربي أيضاً)، هو هزاع المنصوري، في سبتمبر 2019، إلى محطة الفضاء الدولية التي صُممت بهدف تحضير الإنسان لقضاء أوقات طويلة في الفضاء، وإجراء الأبحاث المتعلقة به، وتم إطلاقها في نوفمبر 1998.
ويهدف مشروع استكشاف القمر، وهو الأول من نوعه على المستوى العربي والرابع على الصعيد العالمي، إلى تحقيق أهداف علمية كبيرة مثل دراسة مواقع جديدة لم تُبحث من قبل على سطح القمر، وتحليل جزيئات الغبار الموجود عليه، وإجراء اختبارات لمعرفة طبيعة التربة القمرية، وقياس الإلكترونيات الضوئية الموجودة فوق الجزء المُضيء في هذا السطح. وتشمل هذه المهمة الاستكشافية أيضاً اختبار أجهزة ومعدات تقنية لم تُجرب من قبل في مجالات مثل الاتصالات والتنقل والملاحة والاستشعار عن بُعد، للوقوف على مدى فاعليتها في بيئة القمر الصعبة، التي تُعد أشد قسوة من بيئة المريخ، وإمكان استخدامها في مهمات أخرى لاستكشاف الفضاء الخارجي.
وهكذا، تساهم دولة الإمارات في دعم التراكم العلمي في مجال أبحاث الفضاء، كما في الاستفادة من هذه الأبحاث في مجالات عدة لدعم التقدم الذي تحققه.
إن قيمة أبحاث الفضاء ليست محصورة فيه، بخلاف ما يعتقده كُثُر في منطقتنا، وفي العالم أيضاً. وثمة فرق كبير بين أن تُجرى هذه الأبحاث في الفضاء، أي خارج نطاق الجاذبية الأرضية، وأن تقتصر أهميتها وقيمتها عليه. فلكي يتسنى إجراء أبحاث الفضاء، لابد من بناء قاعدة علمية معرفية ضخمة يعتمد عليها مَن يُخططون لسبر أغواره. وتشمل هذه القاعدة إسهامات في علوم شتى مثل الفيزياء والرياضيات والأحياء والطب والاتصالات، فضلاً عن العلوم العسكرية، خاصةً أبحاث الصواريخ والمناطيد التي تُستخدم في عمليات الاستكشاف في ارتفاعات عالية للغاية.
وأبحاث الفضاء، على هذا النحو، تُعد قاطرة لتقدم بلا حدود يشمل مختلف مناحي الحياة، ويتيح تحقيق قفزات سريعة تشتد الحاجة إليها في الدول التي حالت ظروفها التاريخية دون اللحاق بركب العلم في وقت مبكر، عندما بدأ التقدم فيه على المستوى العالمي، انطلاقاً من أوروبا ثم الولايات المتحدة.
وكثيرة هي الدول التي لم تُمكِّنها ظروفها من خوض غمار الأبحاث العلمية الكبرى في مرحلة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وتُعد أبحاث الفضاء أهم السبل التي يمكن أن تلجأ إليها لتجسير الفجوة مع البلدان التي سبقتها في هذا المجال، كما تفعل دولة الإمارات الآن، وهي بهذا تقدِّم نموذجاً يمكن أن يُحتذى من جانب دول أخرى عربية وغيرها من الدول التي تحتاج قاطرةً لتقدم تتطلع إليه شعوبُها.
أبحاث الفضاء، إذن، تدعم العلم في مجمله، وتفتح أمام الدول التي تتقدم فيها آفاقاً يتعذر تصور مثلها من دون وجود الإرادة وحسن الإدارة، اللازمين لنجاح القرار الصعب لارتياد الفضاء واستكشافه، كما يحدث الآن في دولة الإمارات، ويُمكَّنها من تحقيق إنجازات كبيرة وسريعة، مما يخلق بالتالي النموذج المُلهم في هذا المجال.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية