مثلت مناعة القطيع أحد السيناريوهات المطروحة على طاولة إيجاد الحل، وإدارة الملف الوبائي المرتبط بجائحة كورونا، والتي قوبلت بالكثير من الآراء، وبعضها انتقادات ساخرة. بل إن بعض الدراسين والعلماء القائمين على هذا الملف وصفوا مناعة من ذلك النوع بأنها «مزحة»! فهل من الممكن أن تطرح مناعة قطيع بشكل من الأشكال، وتحصل على ثقة وتشجيع وتأييد؟ وهل مناعة القطيع لابد لها من ارتباط عضوي حيوي ذي علاقة مع إحدى السلالات الفيروسية؟ 
وفي البداية، فإن «مناعة القطيع» مصطلح وبائي يعني الوصول لمناعة ضد أحد الأمراض وتكون كافية لدى شريحة واسعة من الأفراد، من خلال مقاومة الأجسام له بطريقة طبيعية، مما يؤدي لاحقاً لمنع انتشاره وتغلغله في المجتمعات. وبالنظر لمناعة القطيع المأمول تحقيقها ضد فيروس «كوفيد-19»، بلغت نسبة «القطيع» الذي سيتم اختبار هذه الاستراتيجية البريطانية عليه 70% من أفراد كل مجتمع، بحسب «مرصد المستقبل»، ولنا أن نتخيل احتمالية وتحمّل وقوع هذا الأمر وتبعاته. وبالتأكيد، فإن الاتجاه للنظر في هذا الحل، بغض النظر عن صوابه، كان مشحوناً بدافع التناغم مع الظروف والتداعيات التي نقلت قطاعات ومؤسسات العالم من الاستقرار إلى المواجهة. 
وفي ذات السياق، فإن هذه الأزمة ولدت تداعيات على الطبيعة البشرية كان يفترض أن تدفع نحو جهد جماعي مشترك، يشكل مناعة إنسانية واجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وتعليميةً.. مولِّدةً جميعها لمناعة بشرية ضد التداعيات العالمية. ولكي يكون ذلك موفقاً وبعيداً عن ذات البوتقة التي ركدت فيها مقترحات «مناعة القطيع» الصحية، فلابد من موازاتها و«مناعة القطيع» الإنسانية، التي تركز على الفرد وتخدمه وتعالج مشاكله ابتداءً من ذاته، دون تعريضه لمخاطرة أشد إيلاماً من الجائحة نفسها. 
وفي حين تعني مناعة القطيع استمرار الحياة كأن شيئاً لم يكن، مع وجود ملايين الوفيات كبداية، فإن الأخرى تعني البدء بمنهجية جديدة تتلاءم وتغيرات العالم الجديد الذي لن يعود كما كان من قبل، وتدفع بصون الإنسان وضروراته الخمس التي حثت الشريعة الإسلامية على احترامها وعدم الإخلال بكينونتها.
ومجتمعات اليوم أحوج ما تكون للخروج بمناعة قطيع صحية مختلفة عن مفهومها السائد حالياً، مناعة قيمية حائزة على إيمان جمعي بضرورتها، ووعي كلي بمكانتها وتأثيرها على الواقع.. مما سيشكل مناعةً أزماتية، لا تلغي «الصدمة» الأولى التي يجابه بها الإنسان حالات الطوارئ، بل تجعل لديه خلفية أوسع وأقدر على استيعاب الأزمة وتخطيها، وفي ظل مكتسب أخلاقي إنساني عالي المستوى، ما يعني تفعيل الواجب أو الضمير، والتزام ما أسماه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط «القانون الأخلاقي»، والذي لابد من بنائه بمراعاة أساساته الثلاث؛ وأولها إقدام الفرد على القيام بما تمليه عليه مسؤوليته، كواجب وليس كمصلحة فردية. وثانيها اشتراط وجود التلازم بين النية والقيمة الأخلاقية، بصدور الفعل من نية أداء الواجب. وثالثها ضرورة الإقدام على الفعل ضمن الإطار القانوني، أي أنه لابد من احترام القانون، بحيث تكون المسؤولية الأخلاقية من وإلى حماية الأفراد وتحقيق مصالحهم بصورة عادلة، وهذا ما تسعى إليه الصيغة القانونية بمجملها. 
إن جائحة كورونا ترسل لنا إشارات عديدة بضرورة إعادة الميتافيزيقا للواجهة، وتنبه الإنسان إلى أهمية الإنصات لخلجاته العقلية والنفسية، والخوف من الإصابة بعدوى الكراهية والعنف، والسعي للحصول على عدوى أخلاق لا لقاح لها، بل تتطور لتصبح واقعاً معاشاً. فالجوع والفقر والتطرف والجهل والظلم، أقسى مئات المرات من الإصابة بالفيروس الذي حظي بنسبة شفاء عالية، وتقترب فرصة إعلان لقاح فعال له، على عكس صعوبة التعافي من الوباء القيمي والتشوه الأخلاقي. 
إن جائحة كورونا حثت إنسانيتنا، ولا تزال تحثها، على الالتزام بتراتبية المستويات التي يبنى عليها الفرد، شرط أن تكون قاعدتها المؤسسة، ومرتكزها الذي لا تراجع عنه إيمانه بأنه إنسان قبل أي محددات أخرى.. فالأزمات هي تغليب للإنسانية، وتطويع للمحاولات التي تنزع للمادية البحتة في كل شيء.