في موريتانيا، رفع الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني شعار إعادة بناء «المدرسة الجمهورية»، ويعني هنا المدرسة العمومية التي كانت إحدى دعائم الدولة الوطنية الحديثة والأداة المثلى للاندماج الوطني والرقي الاجتماعي.
ومن المعروف أن هذه المدرسة انهارت في موريتانيا، كغيرها من أغلب البلدان العربية، لأسباب عديدة، من أهمها العامل الاقتصادي الذي قلّص إمكانيات الإنفاق الحكومي على التعليم، والخيارات التربوية الخاطئة التي سمحت بالانتشار العشوائي للمدارس الخاصة، دون رقابة نوعية جادة.
إن النتيجة الظاهرة لهذه الوضعية المغلوطة هي: تحلل النسيج الاجتماعي، وتراجع السلطة العمومية للدولة، وانفصام التعليم عن سوق العمل وتردي مخرجاته علمياً، بما لا نحتاج إلى إظهار مؤشراته ودلائله. 
ولقد عكست أزمة كورونا الأخيرة هذه الاختلالات المتفاقمة، حيث عجز التعليم العمومي عن امتصاص الصدمة الحادة التي تولّدت عن الإجراءات الاحترازية التي فرضتها الدولة، فأغلقت جل المدارس، وظهرت هشاشة مؤسسات التعليم الخصوصي، وبرزت أوجه القصور التقني في الانتقال الملح إلى نمط المدرسة الجديدة الملائمة للثورة التقنية الجديدة.
كنت قبيل أزمة كورونا قد ألقيت محاضرة في جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة حول التحديات التربوية الراهنة، وقد طرحت فيها السؤال الجوهري التالي: كيف يمكن التفكير في مدرسة جديدة تتناسب مع الحداثة الجديدة القائمة على السيولة والانتقال الحركي والتشارك الأفقي والتجاور الافتراضي والشبكية؟
وقد نبهت في معالجة هذا الإشكال المحوري إلى جملة من التحديات الكبرى، من أهمها:
- تغير وسائط المعرفة والعلم نتيجة لثورة الاتصالات الجديدة التي أثَّرت نوعياً على مفهوم التربية ونظم اشتغالها. وهكذا، لم تعد قاعة الدرس هي الحقل التربوي الأول والأساسي، بل إن وسائط الاتصال المحمولة تولت هذا الدور، وأصبح تأثيرها أقوى وأعمق من المدرسة، رغم ما يطرحه هذا التحول من تحديات خطيرة. إن الإشكال الكبير المطروح هنا هو كيف يمكن للمدرسة أن تؤمِّن دقة وموضوعية المعلومة المنتشرة والمتاحة ضمن هذا السيل المتدفق اللامحدود من المعلومات والمعطيات والأفكار؟ وكيف يتعين الانتقال من نموذج المعلم إلى نموذج رقيب العلم الذي يتولى تنظيم وتنقيح المعلومات المتداولة والمبثوثة على أوسع نطاق؟ وكيف يمكن ملاءمة العملية التربوية مع الثقافة المجانية المفتوحة؟
- التغير النوعي في طبيعة العمل وفي ثنائية الإنتاج والاستهلاك، التي هي صلب المنظومة الاقتصادية، بما لهذا التغير من تأثير كبير على مخرجات العملية التربوية. فمن المعروف أن الثورة التقنية الجديدة قد نقلت مفهوم العمل من الطابع المادي إلى الطابع الإنساني غير المادي القائم على الذكاء الاصطناعي والتصرف الجيني، كما نقلت الاقتصاد من مفهوم التجميع المركزي إلى المفهوم التشاركي، ومن ثم أصبح التعليم التقليدي عاجزاً عن التأقلم مع سوق العمل الجديدة، سواء تعلق الأمر بالاختصاصات والمواد التعليمية، أو بإمكانات التشغيل العملية. 
- تغير نوعي في التركيبة الثقافية واللغوية للنظام التربوي، بسيطرة اللغة الإنجليزية على 51 بالمائة من المحتوى العام في شبكة الإنترنت، في حين لا يتجاوز المحتوى العربي 0.7 بالمائة، مع أن العربية هي اللغة الرابعة من حيث عدد مستخدمي الإنترنت. إن هذا التفاوت الخطير الناتج عن ضعف الصناعات الثقافية والتربوية العربية له تأثير خطير على المنتج التربوي وعلى العملية التعليمية بكاملها، بحيث يغدو السؤال المطروح هو: كيف يمكن بناء منظومة تربوية عربية فعالة دون العمل الجاد على سد الفجوة الرقمية التي تفصل العالم العربي عن العالم المتقدم؟
إن هذه الإشكالات تحيل إلى التحديات النوعية التي يطرحها مشروع إعادة بناء المدرسة العمومية، الذي أصبح ملحاً وضرورياً في الساحة العربية، لارتباطه بهدف إعادة بناء الدولة وترسيخها في مواجهة معاول الهدم والتفتيت التي تتغذى من الفجوات والهفوات الداخلية والأطماع والتهديدات الخارجية.
كان المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل يقول: إن المعلم هو الذي بنى الجمهورية المركزية الموحدة في فرنسا، وهي حقيقة ملموسة في جل الدول العربية التي تركزت فيها الحالة المدنية الحديثة على أساس التعليم العمومي. ولقد كان المفكر والأديب المصري الراحل طه حسين بعيد النظر عندما أقر، وهو وزير للمعارف عام 1951، مجانية التعليم في إطار تصوره لدور المدرسة الحاسم في بناء الهوية الوطنية المتماسكة والموحدة.
ومن البديهي أن الإصلاحات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها البلدان العربية استندت دوماً إلى العامل التربوي في نجاعته العملية لإحداث التغييرات المنشودة، بيد أن المطلوب اليوم هو تأهيل للمدرسة العمومية لأداء دورها الإصلاحي وفق الشروط التربوية الجديدة، المتولدة عن الثورة المعرفية التقنية الراهنة.