لم يكن صادماً ما كشفت عنه المراسلات الإلكترونية الخاصة بوزيرة الخارجية الأميركية السابقة، فالسيدة كلينتون كانت الممثلة التنفيذية للشق السياسي من استراتيجية العولمة، بعد أن توطدت ثقافتها اجتماعياً عبر القارات، إلا أنه من الخطأ تناول ما أفصحت عنه تفاصيل تلك المراسلات دون تناول المبادئ التي قام فقه النظام العالمي السياسي الجديد New World Order من منظور فقهاء العولمة. كذلك يُعد أي تناول لما مثّله الشرق الأوسط ضمن ذلك المنظور الجديد دون بحث أسباب تمكينه الحيوية - وأولها تخلّف برامج التنمية الاجتماعية التي كرّست الهويات الفرعية (العرقية/الطائفية) على حساب الهوية الوطنية في عموم عالمنا العربي والإسلامي. 
وبقدر استحقاقات الأسئلة واجبة الطرح، تبرز الآن استحقاقات الإدراك المقدمة على الاستدراك السياسي (احتواءً) في التعاطي مع استحقاقات المستقبل. أما فهم المدخلات المؤثرة في تحفيز التحولات الكبرى، فهي المدخل لفهم التحول في الشخصية السياسية الأميركية (النظام الدولي الجديد البديل). فالحرب الباردة أكدت ضرورة وحيوية النموذج الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية لاستدامة الاستقرار والنمو في فضائها الجيواستراتيجي (إعادة إعمار أوروبا، والنهوض بجنوب شرق آسيا، وإنهاء الدور الاستعماري الأوروبي، وبرامج التنمية الاجتماعية في أفريقيا وشرق آسيا والشرق الأوسط). إلّا أن انهيار الاتحاد السوفييتي، ومعه التحول في مفهوم «المسؤوليات المباشرة للولايات المتحدة في حفظ الأمن والاستقرار»، أنتج واقعه الخاص، وأيضاً فقهاً سياسياً مغايراً لمبادئ آيزنهاور، التي قامت عليها السياسة الخارجية الأميركية. يقوم ذلك الفقه السياسي الجديد على:
أولاً: قابلية الجغرافيا السياسية القائمة للاستدامة ضمن فضاء نفوذها السياسي، أو تخليق أخرى أكثر تناسباً (ثورات أوروبا، والربيع العربي).
ثانياً: قابلية استقرار تلك الجغرافيا اجتماعياً وسياسياً ضمن الحدود الدنيا للتدخل المباشر للولايات المتحدة.
ثالثاً: إعادة تعريف مفهوم (المناطق المُعرّفة بالحيوية أو الاستراتيجية) خالصة النفوذ للولايات المتحدة.
رابعاً: الهويات الفرعية مقدمة على الهويات الوطنية في عموم الدول النامية وغير المستقرة، لذلك تمثل الهويات الدينية خيارات أقل كلفة في تخليق بدائل سياسية أكثر استقراراً (النموذج الإيراني). 
خامساً: الآحادية القطبية واقع مستدام. 
استتباب الهيمنة أوحى بضرورة تسريع بعض الرؤى الخاصة، وأولها نموذجها الاجتماعي السياسي. وكان ما يعرف بأوروبا الشرقية أولى مسارح تلك العملية، عبر الثورات (المخملية) الجديدة في التسعينات من القرن الماضي.
شرق أوسطياً، ربما يمكن اختزال رؤية نخب صناعة السياسة الأميركية من خلال ما قاله زبجنيو بريجنسكي، المستشار السابق للأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، في تصريح لقناة CNBC عام 2013، عندما قال: «هناك ثلاث قوى عتيدة في منطقة الشرق الأوسط، هي من يجب أن تكون حليفاً لنا (الولايات المتحدة)، وأعني هنا إسرائيل وتركيا وإيران. فتلك الدول قادرة على تمثيل مصالحها باقتدار، ولا تستأذن أحداً في ذلك».
من هنا نستشف أن سياسة المهادنة التي اعتمدتها الولايات المتحدة إبان عهد الرئيس باراك أوباما تجاه جمهورية إيران الإسلامية، لم تكن خارج إطار الرؤية التي عبر عنها بريجنسكي. أما النموذج الأولي لإعادة إنتاج جغرافيا سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، كان بقبول حكومة عمر البشير بانفصال جنوب السودان وإعلانه دولة مستقلة في 2010.
الربيع العربي كان (الحل النهائي) من المنظور الأميركي في إنتاج جغرافيا سياسية جديدة، بخلاف ما أنتجته معاهدة سايكس-بيكو، وتقوم على إعادة ترسيم الشرق الأوسط حسب حدوده الطائفية، وتقسيمه بين تركيا وإيران. وبذلك تضمن نهاية لصراعات المنطقة، واستدامة لاستقراره وضمان أمن إسرائيل ومصالحها الوطنية. تُرى ما هي دروسنا المستفادة من تلك التجربة، وبرامج التحصُّن المستقبلي عن مثلها؟
*كاتب بحريني