الأدميرال جوزيف ناي، من جامعة هارفارد المشهورة، أحد أعمدة العلوم السياسية والاستراتيجية في الولايات المتحدة، له كتاب مرجعي مهم أصدره أواخر ثمانينيات القرن الماضي بعنوان: «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية». 
وفي مقالة أخيرة له في‭ ‬«Project Syndicate‭» ‬عنوانها: ‬«الجغرافيا ‬السياسية ‬بعد ‬الجائحة»، ‬يذكر ‬أن ‬تقديرات ‬التأثيرات ‬على ‬المدى ‬الطويل ‬للجائحة ‬الحالية ‬ليست ‬دقيقة، ‬وأنه ‬لا ‬يوجد ‬تصور ‬مستقبلي ‬واحد ‬مضمون ‬الحدوث ‬حتى ‬عام (‬2030)، وبدلاً من ‬ذلك ‬يتنبأ ‬بإمكانية ‬حدوث ‬خمسة ‬سيناريوهات ‬محتملة ‬كالتالي:
1- نهاية ‬النظام ‬الليبرالي ‬العالمي.
2- استبداد ‬سلطوي ‬يشبه ‬فترة ‬الثلاثينيات.
3- نظام ‬عالمي ‬تهيمن ‬عليه ‬الصين.
4- أجندة ‬دولية ‬خضراء.
5- استمرار ‬الوضع ‬الحالي، ‬أي التعاون ‬مع ‬الصين ‬في ‬قضايا ‬معينة (‬مكافحة ‬الأوبئة، التغير ‬المناخي) ‬والخلاف معها ‬في ‬قضايا ‬أخرى (‬حرية ‬الملاحة ‬في ‬بحر ‬الصين ‬الجنوبي)‬.
ويؤكد «ناي» أن التطوير السريع للقاحات الفعالة سوف يعزز استمرارية المنافسة، ‬وأنه ‬قد ‬تنتج ‬عن ‬جائحة ‬«كوفيد-19» ‬تغييرات ‬محلية ‬مهمة ‬تتعلق ‬بالتعليم ‬والرعاية ‬الصحية.
هذه السيناريوهات الهامة التي أتى بها ناي في مجال الجغرافيا السياسية الجديدة بعد جائحة كورونا، تحتاج في نظري إلى شرح وإلى تصويب أكبر.. فالذي يحدث يكمن في أن البيئة الدولية الجديدة أصبحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى، فالقوة بالمفهوم القديم لن يصبح لها أي معنى، إذ تكفي حروب على شكل هجمات إلكترونية أو نشر أسلحة فيروسية مجهولة المصدر للقضاء على الأخضر واليابس، ولن تعود بعض الدول القوية، كالولايات المتحدة مثلاً، تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي بل وحتى الثقافي كما كان الحال في السابق، ولن يعود للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات أخرى عديدة، واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية المقبلة. 
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ستظهر الصين، وبعدها روسيا، في ظل هذه البيئة الدولية المعقدة كقوتين تثقان في نفسيهما بازدياد، ولربما استعملتا أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل، ونحن نتذكر كيف يمكن لتدخلات إلكترونية من التأثير بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية، فالاستراتيجيون الروس وعوا منذ سنوات مفهوم البيئة الاستراتيجية التي يُشار إليها في منشورات وثقافة كلية الحرب الأميركية على أنها «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ، وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية، وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية، وباختصار، فإن هذه البيئة تتسم بالتقلب والتوجس والتعقد والغموض».
ثم لا جرم أن جائحة فيروس كورونا المستجد قد ينتج عنها تراجع نسبي للولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة، خاصة بالنظر لمستوى تعاملها مع الجائحة، مما سيؤدي إلى استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في بعض مناطق العالم، ‬لكن ‬هذا ‬لن ‬يمنع ‬من ‬ولادة ‬جديدة ‬للديمقراطية ‬الليبرالية، ‬الأزمات ‬الكبيرة ‬قد ‬تؤدي ‬في ‬بعض ‬الأحيان ‬إلى ‬نتائج ‬غير ‬متوقعة، ‬كما أدى الكساد ‬العظيم ‬إلى ‬انبعاث ‬النعرات ‬الانعزالية ‬والقومية ‬والفاشية، ‬ثم ‬اندلاع ‬الحرب ‬العالمية ‬الثانية، ‬غير ‬أن ‬ذلك ‬الكساد ‬أدى ‬إلى إطلاق ‬مجموعة ‬من ‬البرامج ‬الاقتصادية ‬في ‬أميركا ‬عُرفت ‬باسم «الصفقة ‬الجديدة»، ‬وإلى بروز ‬الولايات ‬المتحدة ‬كقوة ‬عالمية ‬عظمى، ‬وإلى تصفية ‬الاستعمار ‬في ‬نهاية ‬المطاف. 
وأخيراً، إذا سلمنا بأنه سيتم تبني أجندة دولية خضراء أكثر واقعية، فإنه في المقابل سنشهد تصاعد النعرات القومية في العديد من دول العالم، مما سيؤدي إلى تفاقم محتمل للصراع الدولي، فربما يرى بعض القادة في المشاحنات مع الأجانب وسيلة مفيدةً لصرف الأنظار عن السياسة الداخلية، أو قد يغريهم ضعف منافسيهم أو انشغالهم بالجائحة بزعزعة استقرار من يستهدفونهم بغية خلق واقع جديد على الأرض.