لم تكن مصادفة أن يزور رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية بيروت في أول سبتمبر الماضي، ويصول ويجول في المخيمات الفلسطينية، ويهدد من هناك إسرائيل بصواريخ «فتاكة»، فالمعروف أنه لبَّى دعوة «حزب الله» الذي فتح له صالون الشرف في مطار رفيق الحريري، كأنما جاءت الزيارة إشارة واضحةً إلى «المعارضة اللبنانية» وإلى الخارج، أن نصر الله قادر على تحريك الفتنة داخل المخيمات، وأنه رغم قوة حركة «فتح» قادر على الإمساك بالورقة الفلسطينية، بمعية إيران وتركيا، بل كأنه يقول بالفم الملآن: إن قطبي التشدد السني والشيعي (إيران وتركيا) يهدفان إلى تعاون وثيق على مستوى لبنان والمنطقة، لمواجهة العدو المشترك، أي المجموعات والأحزاب السيادية في لبنان التي تطالب بسحب سلاح الحزب.
ومَنْ بات لا يعرف أن الدولتين (حفيدتي الصفويين والعثمانيين) على تماس بالوسائل والأيديولوجيا (لولاية الفقيه و«الإخوان المسلمين»)! فإيران كما يقول الواقع، تتمدد لطموحات إمبراطورية في أكثر من دولة عربية، لتقلدها تركيا أردوغان وتتماهى معها في انخراطها العشوائي في مغامرات عسكرية في أمكنة متعددة، كتدخلها في النزاع بين أذربيجان وأرمينيا في كاراباخ، وفي ليبيا، وسوريا، والعراق.. ممتدة إلى حقول النفط والغاز في اليونان وقبرص، ليكون ذلك التنسيق تكتيكياً واستراتيجياً بين الدولتين الأعجميتين في أكثر من ساحة، وقد برز ذلك في موقفهما العدائي والتخويني من معاهدة السلام بين دولة الإمارات وإسرائيل!
إنها جبهة قديمة جديدة تواجه العرب أولا وآخراً، وخصوصاً جبهة الاعتدال العربي (السعودية والإمارات ومصر والأردن)، وتتغلغ الدولتان في العالم العربي وتخترقانه، بذاكرتين استعماريتين عثمانية وفارسية، وقد قررت الدولتان تحفيرات حديثة لهما في لبنان، فـ«حزب الله» الإيراني يسيطر على كل مفاصل السلطة في لبنان، وعلى قرار الحرب والسلم، وها هو يستجلب هنية ليتمدد في المخيمات الفلسطينية، أما الأتراك فقد بدأوا يستميلون بعض الرموز الباهنة خصوصاً في طرابلس . زار أحدهم تركيا وعاد منتشياً بذكرى المجازر التي ارتكبها العثمانيون في جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وتجويع مئات الألوف، وموت نحو مئتي ألف لبناني، ومن قام بهذه الزيارة (أضعف ورثة الإقطاع السياسي) هو أصلاً حليف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر».
ونظن أن تراجع شعبية بعض الزعماء السنة أوجد فراغاً ما، فاستغله أردوغان، ليتسلل إلى طرابلس باعتباره منقذاً للسنة وحتى اللبنانيين عموماً، كما فعل في العراق وسوريا وليبيا وأذربيجان.. لكن رغم ذلك، فإن المزاج اللبناني عموماً، والسني خصوصاً، ليس على رادار الأردوغانية، فهؤلاء يتذكرون ما ارتكبه جمال باشا الجزار من جرائم ومجازر، بحق اللبنانيين، ويتذكرون أن السنة والموارنة وسواهما شكلا جبهة في بداية القرن الماضي ضد الاستعمار العثماني، فجوبهوا بالقمع والقتل وعلّق عشرات منهم على المشانق، فكانوا من أوائل شهداء لبنان والمفتتحات الأولى لخروج العثمانيين منه.
كل هذه الذكريات لم تُمحَ من ذاكرة اللبنانيين، وجبروت العثماني الفاسد ما زال حياً في نفوسهم، ولهذا فإن محاولات أردوغان اختراق بعض المناطق، أضعف من أن تشكل ظاهرة، إلا إذا اجتمعت له ظروف حالية متمثلة بحلف أردوغان و«حزب الله»، أي تطويق لبنان من عدة جهات، وابتزازه ومحاولة حتى نسف نظامه وكيانه.

*كاتب لبناني