نتذكر أن الرئيس الأميركي قد رفض منذ أشهر معدودات، في تغريدة له على تويتر، رفضاً قاطعاً الدعوات المطالبة بإزالة أسماء قادة من الحقبة الكونفيدرالية أثناء الحرب الأهلية، من قواعد عسكرية أميركية. ونتذكر أيضاً أن نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب ، كانت قد طالبت بإزالة تماثيل مسؤولين من هذه الحقبة من مبنى الكابيتول، واصفة إياها بأنها «تكريم للكراهية وليس التراث»، وذلك في إطار الجهود المبذولة لمكافحة العنصرية، على خلفية قضية جورج فلويد. ‬والقواعد ‬العسكرية ‬التي ‬يطالب ‬الناشطون ‬بتغيير ‬أسمائها ‬تقع ‬كلّها ‬في ‬جنوب ‬البلد، ‬وتحمل ‬أسماء ‬قادة ‬عسكريين ‬جنوبيين ‬خلال ‬الحرب ‬الأهلية، ‬كان ‬معظمهم ‬مدافعاً ‬عن ‬نظام ‬الرقيق.
وللذكر، فإن الحرب الأهلية التي مزّقت الولايات المتحدة بين 1861 و1865 كان سببها الأساسي نظام العبودية، الذي انقسمت بشأنه البلاد بين ولايات شمالية حاربت هذا النظام، وأخرى جنوبية رفضت تحرير العبيد، وأعلنت انفصالها عن الاتحاد وتأسيس كونفيدرالية.
ثم إن كل هذه الدعوات، كان قد ولّدتها الاحتجاجات التاريخية التي أشعلت فتيلها وفاة جورج فلويد، المواطن الأعزل الذي قضى اختناقاً تحت ركبة شرطي أبيض أثناء توقيفه في مينيابوليس؛ مما أعاد إحياء الجدل الحسّاس في الولايات المتّحدة حول إرث العبودية في البلاد.
وفي خضم هذا الجدل اللامتناهي حول العنصرية المتجذرة في أميركا، نشر «بنك سيتي غروب» تقريراً، منذ أيام، يوضح فيه كيف أضحت سياسات التمييز العنصري عائقاً أمام ازدهار الاقتصاد الأميركي، وأضاعت عليه تريليونات الدولارات في العقدين الأخيرين. ‬وقد ‬بينت ‬دراسات ‬سابقة ‬نشرتها ‬شركة ‬الاستشارات ‬الاقتصادية ‬ماكينزي، ‬أن «الأميركي ‬من ‬أصل ‬أفريقي ‬يكسب ‬مليون ‬دولار ‬أقل ‬من ‬المواطن ‬الأبيض ‬على ‬مدار ‬حياته». ‬ولاحظ ‬اقتصاديو ‬«سيتي ‬غروب»، ‬بعد ‬دراسة ‬البيانات ‬التي ‬جمعوها ‬من ‬الاحتياطي ‬الفيدرالي ‬ومكتب ‬التعداد ‬السكاني، ‬أن ‬الفروق ‬في ‬الأجور «لم ‬تضق ‬منذ ‬أوائل ‬العقد ‬الأول ‬من ‬القرن ‬الحالي». ‬كما ‬يستفاد ‬من ‬التقرير ‬أن ‬فشل ‬السياسات ‬في ‬مكافحة ‬التمييز ‬في ‬أماكن ‬العمل، ‬منذ ‬20 ‬عاماً، ‬قد ‬أسفر عن ‬تبديد «مبلغ ‬ضخم ‬للغاية، ‬تصل ‬قيمته ‬إلى ‬2700 ‬مليار ‬دولار، ‬كان ‬يمكن ‬إضافته ‬لإجمالي ‬الدخل ‬القومي ‬إذا ‬لم ‬تكن ‬هناك ‬فروق ‬في ‬الرواتب». ‬ولا ‬جرم ‬أنها ‬أموال ‬كثيرة ‬كان ‬من ‬الممكن، ‬جزئياً، ‬أن ‬تنمي ‬الاستهلاك، ‬أو ‬تستخدم ‬للاستثمار ‬في ‬الأعمال ‬التجارية ‬أو ‬العقارات. ‬ويأسف ‬خبراء ‬الاقتصاد ‬في ‬هذه ‬المجموعة ‬البنكية ‬على «‬أن ‬الولايات ‬المتحدة ‬تُحرم ‬من ‬تحقيق ‬0.2 ‬بالمئة ‬زيادة ‬على ‬نسبة ‬النمو ‬الحالية، ‬جراء ‬سياسات ‬التمييز ‬الحاصل ‬في ‬توزيع ‬المداخيل»‭‬. ‬لكن ‬المشكلة ‬تتخطى ‬موضوع ‬الأجور، ‬فهي ‬أبعد ‬من ‬ذلك ‬بكثير. ‬يضيف ‬تقرير «‬سيتي ‬غروب» ‬أن «‬صافي ‬الثروة ‬لأسرة ‬أميركية ‬من ‬أصل ‬أفريقي، ‬في ‬المتوسط، ‬هو ‬أقل ‬بثماني ‬مرات ‬من ‬صافي ‬ثروة ‬الأسرة ‬البيضاء، ‬وفقاً لحسابات ‬الاحتياطي ‬الفيدرالي».
إن أحد المكونات الرئيسية لثروات الأميركيين يأتي من القيمة العائدة لمنازلهم. وفي هذا الصدد، فإن التمييز صارخ للغاية، وتشير الدراسة إلى أن «الفجوة بين نسبة الأميركيين السود الذين لديهم ممتلكات ونسبة البيض قد ازدادت منذ الستينيات». فما يزيد من «اتساع اللامساواة العرقية» هو أن هذه الأقليات عندما تتمكن، على الرغم من كل شيء، من تملك عقار، فإنه غالباً ما يكون في الأحياء الرخيصة، ما يعني أن قيمة ممتلكاتهم ترتفع ببطء شديد.

هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، إذا كانت البنوك تتردد في منح القروض العقارية، فهي أشد حذراً في تمويل المشاريع التجارية وإنشاء الشركات للأقليات العرقية. ويقدر البنك الأميركي بأنه إذا كانت المؤسسات المالية قد «تعاملت بطريقة عادلة ومنصفة» مع رواد الأعمال الأميركيين من أصل أفريقي، الذين جاؤوا لطلب المال لإنشاء أعمالهم التجارية، «كان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى توليد مبلغ 13 تريليون دولار من الإيرادات الإضافية للاقتصاد الأميركي، وخلق حوالى 6 ملايين فرصة عمل منذ 20 عاماً مضت‏‭.«
عندما اطلعت على هذا التقرير الميداني والعلمي الخاضع لأبجديات الأرقام والتحاليل الاقتصادية والمجتمعية، تكونت لدي قناعة بأنه لا يمكن إنهاء هذه التفاوتات العرقية بين عشية وضحاها وأن الأميركيين، سيعانون لمدة طويلة من ويلاتها، وهو ما ينذر بفترات احتجاجية عصيبة في المستقبل.