استيقظ العالم قبل خمسة أيام على حرب اندلعت بين أذربيجان وأرمينيا، بسبب نزاع البلدين المستمر حول إقليم ناجورونو كارابخ. وإثر هذا انهمرت التحليلات العسكرية والسياسية التي تبدأ من وصف تاريخ النزاع، ثم تطوره، وما يجري حالياً في ساحتي المعركة والدبلوماسية معاً، والنتائج المتوقعة لهذه المواجهة الحادة بين باكون ويريفان، والتي هي ليست الأولى، وقد لا تكون الأخيرة، إنْ لم ينجز حل سياسي على طاولة التفاوض، إذ أن انتصار طرف على الآخر في الحرب الحالية، حتى لو جاء كاسحاً، فإنه لن يحل المشكلة، إنما يؤجلها فقط.
واندلاع مواجهة مسلحة بين دولتين على خلفية نزاع حدودي بات مسألة مألوفة في تاريخ العلاقات الدولية وحاضرها، إذ إنه من أكبر أسباب الحروب، وأكثرها تبريراً تحت تصورات واعتقادات وتقديرات حكومية وشعبية تجعل من الدفاع عن الأرض، ومن يقطنونها، مسألة ترتبط بالكرامة الوطنية، والمصلحة العامة.
فنزاع ناجورنو كاراباخ إن استعرضنا تاريخه سيعطي مثالاً واضحاً على هذا. فجذور الصراع بدأت خلال الحقبة السوفييتية، حين قام ستالين في عشرينيات القرن الماضي بتطبيق سياسة تشتيت العرقيات وإزكاء الصراع بينها حسب القاعدة السياسية الإنجليزية الشهيرة: «فرق تسد». ووفق هذا ضمت موسكو عنوة الأقلية الأرمينية القاطنة لهذا الإقليم داخل حدود أذربيحان، في الوقت نفسه عزلت الأقلية الآذرية القاطنة لإقليم ناختشيفان داخل أرمينيا، وتم منح كاراباخ صلاحية الحكم الذاتي داخل أذربيجان. وبقيت هذه الأوضاع ساكنة تحت سياسة الحديد والنار للاتحاد السوفييتي، التي ما إن تزعزعت مع اتجاه جورباتشوف إلى البيروسترويكا حتى شرع مجلس سوفييتات كاراباخ إلى المطالبة بانضمام الإقليم إلى أرمينيا، فاعترض القادة الآذريون المنضوين تحت سلطة موسكو وقتها، ولم يمض وقت طويل حتى انخرط الأرمن والآذر بالإقليم في اشتباكات سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية، فتوالى سقوط ضحايا من قتلى ومصابين ومشردين، ليتعقد الموقف في ديسمبر 1989 بقيام مجلس السوفييتات في أرمينيا بضم إقليم ناجورنو كاراباخ إلى دولتهم، التي لم تكن قد استقلت عن الاتحاد السوفييتي بعد، الذي ما إن تفكك بالفعل حتى أعلن انفصاليون في الإٌقليم مع مطلع 1992 الاستقلال عن أذربيجان ورفضوا في الوقت ذاته الانضمام إلى أرمينيا. وأدت مساندة روسيا لأرمينيا إلى تثبيت الوضع وفق اتفاق وقع في 1994 وكان في غير مصلحة أذربيجان بالطبع، ودخل البلدان في تفاوض تحت رعاية الاتحاد الأوروبي، الذي فوض عدة دول سميت مجموعة «مينسك» برئاسة الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، لكنها لم تنجح في إنهاء الصراع.
بهذا المسار والوضع، يكون هذا النزاع نموذجاً دالاً على كثير من الحالات في العالم أجمع، حيث الأقاليم التي تركت دون حسم في الضم وتجلية الإرادة السياسية لسكانها وفهم تاريخهم وطبيعتهم وأخذ مصلحتهم في الاعتبار. فالاستعمار ورواسب الإمبراطوريات والصراع الدولي المتواصل قاد إلى الإبقاء على نزاعات دون حسم، لتصبح جراحاً غير مندملة، ما إن ينكأها أحد من الداخل أو الخارج حتى ينفجر دمها من جديد.
لقد كانت منظمة الوحدة الأفريقية التي تم إنشاؤها عام 1965 حصيفة حين أعلنت مبدأ «قدسية الحدود» في محاولة لإغلاق أي سبيل لنزاعات بين البلدان الأفريقية الخارجة من قبضة المستعمرين، وهذا إنْ كان قد قللها بالفعل، فلم يمنعها تماماً. أما خارج أفريقيا، وفي كل قارات العالم تقريباً، بقيت جيوب من الأرض، وأشتات من السكان، تجعل النزاعات بين الدول مفتوحة، لاسيما إن كانت هذه الأرض غنية بالموارد، وقد يتسع الأمر إن دخلت أطراف إقليمية ودولية في النزاع، فكبرى الحرائق من مستصغر الشرر.