حين كتب «ألفريد سوفيه»، عالم الاقتصاد وخبير السكان الفرنسي، مقالاً عام 1952، صنّف فيه العالم إلى دول متقدمة وتضم «الدول الغربية» كأميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان وأستراليا، و«الدول الشيوعية» كالاتحاد السوفييتي والصين وأوروبا الشرقية، وكذلك أطلق على الدول النامية بـ«دول العالم الثالث»، لم يجر بخلده، أن الإمارات التي تأسست بعد مقالاته بعشرين عاماً، ستصعد خلال أقل من خمسين عاماً، وبصورة قياسية لافتة، لتصبح من دول العالم المتقدم.
الجانب الآخر، أو الضفة الأخرى، التي تقف فيها الدول المتقدمة، كانت بالنسبة لجميع الدول النامية جانباً مستحيلاً غير قابل للعبور إليه، فالفروقات السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية، بين الجانبين، تُظهر فجوة عميقة تشبه الوادي السحيق، لا يمكن لأي من الدول النامية تجاوزها، ومع العجز والشلل، بقي تصنيف «سوفيه» قائماً، ليس على أرض الواقع فحسب، بل في أذهان وعقول الشعوب أيضاً.
لم تكن قدرة الإمارات على رؤية الجانب الآخر والتحول إليه وليدة الصدفة، فقد كانت الإمارات، ومنذ تأسيسها، في سباق مع الزمن، لتكسير كافة الحواجز الواقعية والذهنية التي تمنعها من العبور، فسخرت جميع مواردها البشرية والاقتصادية لتصبح قوة إقليمية، ليس على الصعيدين السياسي والعسكري فقط، بل في المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية وغيرها، فكان الخيار الأول والوحيد، لتحطيم كافة الحواجز الاستراتيجية، هو أن «التراجع ليس خيارا» متاحاً على الإطلاق.
لا أتفق مع وزير الدفاع الأميركي السابق «جيم ماتيس»، الذي أطلق على الإمارات لقب «إسبرطة الصغيرة»، ومع أنه أراد تقريب الصورة والإشادة بالإمارات باعتبار أنها تشبه تلك المدينة اليونانية القديمة، من حيث المقارنة بين المساحة ومدى القوة، وعدد السكان وحجم التأثير، إلا أن ذلك يحصر الإنجاز الإماراتي المتفوق في القدرة العسكرية فقط، وهذا ليس دقيقاً، فالقوة العلمية الإماراتية التي قررت قطع مسافة 495 مليون كيلومتر من الأرض، لرسم خريطة لغازات الغلاف الجوي المحيط بكوكب المريخ، هي قوة حقيقية جبارة لديها رؤية عميقة ونَفَس طويل، وليست قوة عسكرية فحسب، إنها قوة تستند إلى العزم الراسخ في النفوس الإماراتية، في كافة المجالات.
هذا ما نريد قوله بدقة متناهية، ونريد من الجميع أن يفهمه بوضوح، أن التحول الإماراتي الفذ والقياسي، من جانب الدول النامية إلى جانب الدول المتقدمة، يشمل كافة المجالات، فالمرتبة الأولى عالمياً في 121 مؤشراً، والأولى في 479 مؤشراً عربياً، وضمن أكثر 10 دول تنافسية عالمياً في 300 مؤشر دولي، ليست مجرد أرقام، بل هي حقائق جلية تظهر مدى رسوخ خطة التنمية الشاملة للمسيرة الإماراتية، فحققت التقدم المذهل لأفضل المؤشرات العالمية في مجالات الأمن والأمان والاقتصاد والاستثمار والتعليم والرعاية الصحية والبيئة وغيرها، بفضل توجيهات ورؤى وجهود القيادة الحكيمة، وجهود شعب الإمارات الفتي التواق للتنافس مع العالم المتقدم.
لم يخطر على بال «ألفريد سوفيه»، أنه وبعد أقل من 70 عاماً، ستصعد إحدى دول العالم الثالث، كما أطلق عليها، بسرعة وإتقان، لتقدم مساعدات إنسانية وصحية لدول العالم الأول والثاني خلال أزمة صحية فتكت بالعالم في عام 2020، وأن هذه الدولة، وخلال تلك الجائحة، ومع التراجع الكبير في النظم الصحية في دول العالم المتقدم، والتراجع الاقتصادي الخطير، ستقوم أيضاً بغزو المريخ، وتقوم بتشغيل مفاعل للطاقة النووية السلمية، بأعلى معايير الأمن النووي.
تكسير الحواجز، الواقعية والذهنية، والتحول إلى مصاف الدول المتقدمة، كان يلزمه تحول جذري في الحالة الحضارية أيضاً، فالانغلاق وسد الأبواب وصم الآذان، والتعلق بالماضي والأساطير، لن يسمح لأي دولة، من أي تصنيف، أن تتقدم خطوة واحدة، فكان على الإمارات، وحين أصبحت قوة إقليمية، سياسية وعسكرية واقتصادية وعلمية، أن تعيد مراجعة أسس النجاح الحضاري، بعقلية متفتحة، فوجدت مبكراً أن التطور يحتاج السلام، وأن التقدم يلزمه المصالحة، كما حدث في اليابان وألمانيا وأوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، فكسرت الإمارات، الحاجز الأخير، الذي كان يفصلها عن بلوغ الجانب الآخر، وحققت سلاماً حضارياً يطوي صفحات مظلمة في تاريخ هذه المنطقة من العالم، التي ما زال معظمها يوسم بأنه من «دول العالم الثالث».
الإمارات لا تبحث عن الألقاب، ولا شك أن سعيها الحثيث للإنجاز هو وسيلة لتحقيق غاية سامية، لا مجال للتراجع عنها، وهي تهيئة هذه المنطقة من العالم لتصبح مكاناً آمناً متقدماً يمكن للأجيال القادمة أن تعيش فيها بسلام.

*  لواء ركن طيار متقاعد