لقد تبين اليوم الرشد من الغي في لبنان، فالدلائل كلها تشير إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة والأحزاب ومليشيات الطوائف، تصر على إفشال أي تشكيل لحكومة كفاءات مستقلة لا ينتمي أعضاؤها لأحد سوى الوطن، وهم على الأرجح سيظلون كذلك حتى يتحقق لهم ما يريدون بأن تأتي حكومة على شاكلتهم، تمثلهم وتنفذ أجندتهم، فلا يهمهم إن فشلت المبادرات الخارجية والداخلية التي يطالب بها الشعب، المشهد السياسي آخذٌ في التعقيد، ليكشف أن الساسة والأحزاب ومليشيات الطوائف باتت تمتلك شهية لا تجارى للإفساد والتخريب، حتى وإن تأكد لهم أن البلاد ذاهبة بالفعل إلى «جهنم»، بحسب نبوءة الرئيس ميشل عون، ويا لها من نبوءة ينطق بها رئيس مهمته الأساسية إنقاذ البلاد والعباد من الشرور! وأي نوع من الساسة هؤلاء الذين يخططون في الليل خلافاً لما يعلنونه في النهار! وهل ثمة جذور لهذه الظاهرة؟ ربما السر في مذكرات الجنرال الفرنسي «دانتيز»، الحاكم العسكري للبنان أيام الحرب العالمية الثانية، والتي حظيت باهتمام كبير من قبل المراقبين والمهتمين السياسيين لما انطوت عليه من وقائع وتحليلات، كانت حتى وقت قريب غامضة أو قيد السريّة، وتنبع أهمية تلك المذكرات (196 صفحة)، من كونها تتحدث عن حقبة زمنية هي الأكثر تراجيدية في التاريخ البشري، بعيد نشوب الحرب الكونية الثانية عام 1939، ومنها ما جرى في لبنان الذي أصبح اليوم وجوده من عدمه على المحك. 
يقول الجنرال دانتيز: كنت ممثلاً لحكومة فيشي في لبنان، وعلى تواصل مع المخابرات الألمانية، وفي الوقت نفسه كنت أعمل بسريّة تحت قيادة ديغول لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، خلال خدمتي هذه، أذهلتني الطبقة السياسية في لبنان، فقد كانوا يتوافدون إلى مكتبي معلنين تأييدهم لحكومة فيشي وللألمان، وكانت تقاريرهم تصل إلى مكتبي مركزين على اتهام بعضهم بعضاً بالعمالة لبريطانيا وديغول، وحين كان يأتيني البريد السري من ديغول كنت أفاجأ أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يراسلون ديغول سراً معلنين الوفاء له ولفرنسا الحُرة، ويتهمون بعضهم بعضاً بالعمالة لحكومة فيشي، لقد كانوا يقبضون من الجميع ويبيعون كل شيء، وحين تسألهم عن مطلبهم يقولون: نريد لبنان سيداً حراً مستقلاً، ويذكر دانتيز أنه تساءل: إذا ما رحلنا عنهم، فلمن سيبيعون بضاعتهم ليقبضوا؟