كثيرة الأزمات الإقليمية التي يمكن حلها عندما توجد إرادة دولية، لكنها تبقى مصدر معاناة لشعوب في بلدان عدة، وخطر على الدول المجاورة لهذه البلدان، فضلاً عما تمثله من تهديد للسلم والأمن الدوليين.
تستمر هذه الأزمات، ويتفاقم بعضها، في غياب الإرادة الدولية التي يحول تعارض مصالح قوى كبرى دون حضورها. وعندما تغيب هذه الإرادة، يصيب الشلل منظمة الأمم المتحدة، ويصبح تدخلها في هذه الأزمة أو تلك شكلياً أو روتينياً، ويعجز مبعوثو أمينها العام عن فتح طرق موصدة أمام حلول يسهل التوصل إليها في حالة توافق القوى الكبرى.
وتكتفي الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، في مثل هذه الظروف، بمناشدة أطراف أزمة أو أخرى إنهاء الصراع، وإجراء مفاوضات، أو التحذير من أخطار يتوقعها خبراء في المنظمة الدولية، والوكالات التي تعمل في إطارها، خاصة عندما تُهدد هذه الأخطار حياة قطاعات أوسع من السكان.
وهذا ما فعله الأمين العام أنطونيو جوتيريش في 5 سبتمبر الجاري، عندما حذّر من أن أربع دول مهددة بخطر المجاعة، وهي اليمن، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، ونيجيريا. وجاء هذا التحذير في مذكرة وجهها جوتيريش إلى مجلس الأمن، ونبّه فيها إلى أن البلدان المذكورة تمر بمرحلة انتقال من انخفاض الأمن الغذائي، إلى انعدامه.
لكن هذه المذكرة لم تتضمن الأسباب التي أدت إلى اقتراب خطر المجاعة في هذه الدول، أو الأطراف التي تتحمل المسؤولية عن هذا الخطر، وأخطار أخرى كبيرة. يتجنب الأمناء العامون للأمم المتحدة، في الأغلب الأعم، وباستثناءات محدودة، المصارحة الواجبة عندما تكون القوى الكبرى منقسمة. ويؤدي ذلك إلى إفلات أطراف ترتكب جرائم متنوعة في بعض الأزمات من المحاسبة، واستمرار هذه الجرائم، ومن ثم تفاقمها.
وليست هذه المرة الأولى التي تتجنب فيها المنظمة الدولية إعلان ما تعرفه من انتهاكات وجرائم ترتكبها الميليشيات الحوثية في اليمن، وتؤدي إلى أخطار يُعد خطر المجاعة، الذي حذر جوتيريش من اقترابه، واحداً فقط منها. ويؤدي هذا العزوف عن تحديد المسؤوليات، ومن ثم عدم مساءلة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة، إلى ازدياد هذه الانتهاكات، خاصةً عندما لا يُعنى مرتكبوها بضحايا جرائمهم، ولا يهمهم إلا مصالحهم التي تكون مرتبطة في كثير من الأحيان بخطط أطراف إقليمية أو دولية، كما هو الحال بالنسبة إلى الميليشيات الحوثية في اليمن.
فرغم اقتراب خطر المجاعة في اليمن، على النحو الذي حذّر منه جوتيريش، صعدَّت الميليشيات الحوثية هجماتها على أكثر من محور، خاصةً على مأرب الغنية بالنفط والغاز، سعياً إلى وضع الحكومة الشرعية تحت ضغوط، لكي تضطر إلى النظر في مطلب هذه الميليشيات تغيير آلية استيراد المشتقات النفطية. وتضمن هذه الآلية توريد الرسوم الضريبية والجمركية كلها إلى حساب مصرفي خاص لتمويل سداد رواتب الموظفين، تحت إشراف مكتب مبعوث الأمم المتحدة. وتسعى الميليشيات الحوثية إلى تغيير هذه الآلية لتمكين التجار التابعين لها من استيراد المشتقات النفطية، وتحقيق أرباح تتيح لها دعم ركائز الانقلاب الذي قامت به، بعد أن أصابها اهتزاز شديد.
لم تكتف هذه الميليشيات بخرق آلية استيراد المشتقات النفطية، ونهب مبالغ كبيرة قامت بتحصيلها في صورة رسوم على شحنات وقود في ميناء الحديدة الذي لا تزال تسيطر عليه، بل تريد نسف هذه الآلية وإرغام الحكومة الشرعية على التخلي عنها. كما تستغل حاجة سكان المناطق التي تحتلها إلى الوقود، لخلق حالة تفرض موافقة الحكومة الشرعية على إدخال سفن تحمل شحنات منه إلى ميناء الحديدة لأسباب إنسانية. وتقف الأمم المتحدة موقف المتفرج من خروقات الميليشيات الحوثية لآلية استيراد المشتقات النفطية، وتلاعبها بسوق الوقود في المناطق التي تسيطر عليها، وافتعالها أزمات عن طريق خلق سوق سوداء يتحكم فيها التجار التابعون لها. ولا تُطلع المجتمع الدولي على تفاصيل هذه الخروقات التي يدفع ثمنها موظفون في الحديدة وصنعاء ومدن أخرى، لا يستطيعون الحصول على أجورهم.
وليس هؤلاء الموظفون وحدهم الذين يدفعون ثمن انتهاكات الميليشيات الحوثية. فمعظم الفئات الاجتماعية تعاني جرّاء هذه الانتهاكات، خاصةً النساء والأطفال في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات. فقد أُعيدت أشكال من التمييز ضد المرأة كانت قد انتهت أو تراجعت كثيراً، في الوقت الذي يُحرم أطفال من التعليم، ويُزج بهم في جبهات القتال تحت نظر المجتمع الدولي، الذي يُفترض أنه يولي عناية فائقة لحقوق المرأة والطفل!

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية