ما‎ ‬الذي ‬يحدث ‬على ‬صعيد ‬الاستراتيجية ‬العسكرية ‬الأميركية ‬في ‬أوروبا ‬الغربية، ‬وهل ‬ما ‬تجري ‬به ‬الأقدار ‬هناك ‬له ‬علاقة ‬بمستقبل ‬حلف ‬«الناتو»، ‬والصراع ‬القديم ‬مع ‬الاتحاد ‬السوفييتي ‬سابقاً، ‬وروسيا ‬الاتحادية ‬حالياً ‬على ‬وجه ‬خاص؟
مع‎ ‬أواخر ‬يوليو الماضي ‬كان ‬الجيش ‬الأميركي ‬يعلن ‬أنه ‬سينقل ‬مقره ‬الأوروبي ‬من ‬شتوتغارت ‬بألمانيا ‬إلى ‬بلجيكا، ‬وكان ‬الرئيس ‬ترامب ‬قد ‬أعلن ‬في ‬يونيو الماضي ‬أنه ‬خطط ‬لخفض ‬عدد ‬القوات ‬الأميركية ‬في ‬ألمانيا ‬إلى ‬25 ‬ألف ‬جندي، ‬ما ‬يعني ‬سحب ‬نحو ‬12 ‬ألف ‬جندي ‬أميركي ‬من ‬ألمانيا؟
والشاهد‎ ‬أن ‬الناظر ‬للتحركات ‬العسكرية ‬الأميركية ‬الأخيرة، ‬يكاد ‬يوقن ‬بأن ‬ما ‬يحدث ‬من ‬إعادة ‬تموضع ‬وانتشار ‬هو ‬قرار ‬الجنرالات، ‬وليس ‬قرار ‬ترامب، ‬ما ‬يعني ‬أن ‬الدولة ‬الأميركية ‬العميقة، ‬وبقيادة ‬من ‬المجمع ‬الصناعي ‬العسكري ‬الأميركي، ‬هي ‬الفاعلة ‬والناجزة ‬في ‬كل ‬الأحوال ‬في ‬الامبراطورية ‬الأميركية ‬المنفلتة.
‎ ‬على ‬أن ‬ترامب ‬أوجد ‬بلا ‬شك ‬من ‬خلال ‬رؤيته ‬لأحوال «‬الناتو» ‬مساحة ‬عريضة ‬لهذا ‬المجمع ‬لان ‬يتوسع ‬ويتمدد، ‬فساكن ‬البيت ‬الأبيض ‬يرى ‬أنه ‬لا ‬توجد ‬عدالة ‬في ‬توزيع ‬نفقات ‬«الناتو»، ‬وأن ‬أوروبا ‬تتمتع ‬بالحماية ‬الأميركية ‬من ‬غير ‬أعباء ‬ومشاركات ‬مالية ‬مقابلة، ‬وقد ‬انتقد ‬ألمانيا ‬بنوع ‬خاص ‬على ‬عدم ‬التزامها ‬بالمستويات ‬المستهدفة ‬للإنفاق ‬الدفاعي ‬التي ‬حددها ‬حلف ‬شمال ‬الأطلسي ‬واتهمها ‬باستغلال ‬الولايات ‬المتحدة ‬في ‬التجارة.
على‎ ‬أن ‬الذين ‬استمعوا ‬إلى ‬تصريحات ‬وزير ‬الدفاع ‬الأميركي «‬مارك ‬اسبر»، ‬قد ‬رسخ ‬في ‬أذهانهم ‬هدفاً ‬آخر ‬لتحريك ‬القوات ‬الأميركية ‬داخل ‬أوروبا، ‬لا ‬سيما ‬وأن ‬أغلبها ‬سيمضي ‬نحو ‬البحر ‬الأسود، ‬وقد ‬ينتشر ‬بعض ‬الجنود ‬مؤقتاً ‬في ‬منطقة ‬البلطيق، ‬عطفاً ‬على ‬المزيد ‬من ‬القوات ‬إلى ‬بولندا، ‬والتي ‬صارت ‬حصان ‬طروادة ‬الأميركي ‬الأحدث ‬إلى ‬قلب ‬أوروبا ‬الشرقية ‬إن ‬جازت ‬التسمية ‬من ‬جديد ‬.
‬أسبر«‬يعتبر ‬أن ‬إعادة ‬التموضع ‬العسكري ‬في ‬أوروبا ‬ستشكل ‬تغييراً ‬استراتيجياً ‬وتعزز ‬من ‬ردع ‬روسيا»، ‬وفي ‬الوقت ‬نفسه ‬يرى ‬أن ‬الولايات ‬المتحدة ‬تعمل ‬على ‬تقوية ‬حلف ‬«الناتو» ‬في ‬مواجهة ‬التهديد ‬الروسي.
يلفت‎ ‬الانتباه ‬أن ‬جنرالات ‬أميركا ‬ووزراء ‬دفاعها ‬يذهبون ‬في ‬اتجاه ‬تعزيز ‬رباطات ‬«الناتو» ‬لا ‬سيما ‬بين ‬الولايات ‬المتحدة ‬وأوروبا ‬من ‬جهة ‬، ‬فيما ‬على ‬جانب ‬البيت ‬الأبيض ‬لا ‬نشاهد ‬مثل ‬هذا ‬التشجيع ‬، ‬الأمر ‬الذي ‬دعا ‬العام ‬الماضي ‬لأن ‬يقترح ‬الرئيس ‬الفرنسي ‬ماكرون ‬تشكيل ‬جيش ‬أوروبي ‬مستقل ‬للدفاع ‬عن ‬القارة ‬العجوز ‬ومن ‬غير ‬انتظار ‬منح «‬الناتو» ‬أو ‬منعه.
يؤكد‎ ‬التحليل ‬المتقدم ‬أن ‬الولايات ‬المتحدة ‬الأميركية ‬صاحبة ‬استراتيجية ‬عسكرية ‬عميقة ‬استشرافية، ‬أبعد ‬ما ‬تكن ‬عن ‬أهواء ‬الرئيس، ‬مهما ‬يكن ‬من ‬شأنه ‬أو ‬انتمائه ‬الحزبي، ‬فخطوط ‬الهيمنة ‬والسيادة، ‬وتوجه ‬القرن ‬الأميركي، ‬يتحكم ‬في ‬خيوطها ‬ويرسم ‬خطوطها ‬رجال ‬غير ‬ظاهرين ‬على ‬سطح ‬الأحداث.

التموضع‎ ‬العسكري ‬الأميركي ‬في ‬واقع ‬الحال ‬يجري ‬على ‬قدم ‬وساق ‬مؤخراً، ‬لا ‬في ‬أوروبا ‬فقط، ‬بل ‬في ‬منطقة ‬القطب ‬الشمالي، ‬تلك ‬المرجح ‬أن ‬تشهد ‬صراعات ‬كبيرة ‬قادمة، ‬وبخاصة ‬مع ‬ذوبان ‬الثلوج ‬هناك، ‬والكشف ‬عن ‬الثروات ‬في ‬باطن ‬الأرض ‬والبحر.
لا‎ ‬نوفر ‬القول ‬إن ‬الانتشار ‬الأميركي ‬الجديد ‬في ‬القطب ‬الشمالي ‬هو ‬استعداد ‬لمواجهة ‬روسيا ‬الحالمة ‬بتلك ‬الثروات، ‬ولهذا ‬أرسلت ‬واشنطن ‬عدة ‬طائرات ‬من ‬طراز«‬أف ‬35 » ‬إلى ‬قاعدة ‬إيلسون.

واشنطن‎ ‬تقطع ‬الطريق ‬أمام ‬احتمالات ‬نقل ‬موسكو ‬لقواتها ‬عبر ‬طرق ‬القطب ‬الشمالي ‬المستجدة ‬، ‬وفي ‬الوقت ‬عينه ‬لتكون ‬قريبة ‬من ‬المحيط ‬الهادئ ‬للاستجابة ‬لأي ‬طموحات ‬صينية ‬.
إنه‎ ‬زمن ‬التحولات ‬العسكرية ‬الاستراتيجية ‬الأميركية ‬استعداداً ‬لحروب ‬العقد ‬القادم ‬ولا ‬شك ‬في ‬ذلك.