للتأويل وظيفة معرفية، هي تحقيق الوئام النظري بين الأنا والعالم، والاتساق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. الذات تريد المعرفة بحواسها وذهنها، والواقع عصى عليها بعلاماته ودلالاته. هنا يأتي التأويل ليبني الجسور المعرفية بين الذات والموضوع حتى يصبح العالم مفهوماً تستطيع الذات أن تعيش فيه وتتعامل معه.
التأويل هو ما يعادل نظرية «المعرفة التقليدية»، ولكن هذه المرة بتوسط النص بين الشعور والعالم. فالنص يعكس العالم. والشعور يلتقط الصورة ويحاول فهمها من خلال النص والعودة إلى العالم. الفهم بالنص يقتضي اللغة، والعودة إلى العالم تتطلب التجربة المعاشة لما يعكسه النص. وهذا هو التأويل الفلسفي.
وقد يتعامل الشعور باعتباره وجداناً مع العالم مباشرة باعتباره صوراً فنية وإحساساً بالجمال. وقد يتوسط العمل الفني بين الشعور والعالم كما هو الحال في التذوق الجمالي والنقد الأدبي. فالطبيعة شعر كما هو الحال عند «باشلار». وهذا هو التأويل الجمالي.
وقد يتعامل الشعور باعتباره عقلاً مع العالم مباشرة من أجل فهمه واكتشاف قوانينه والسيطرة عليه والانتفاع به، وقد تتوسط بين العقل والطبيعة معادلة رياضية أو قانون علمي سابق أو تجربة معملية. الطبيعة لا تتحدث عن نفسها بل يقرأها العالم بعد إدراكها، بل إن المنهج التجريبي نفسه في حاجة إلى أسس نظرية، كما حاول «لاشيلييه» في «أسس الاستقراء»، و«كلود برنار» في «المدخل إلى الطب التجريبي»، ومحمد باقر الصدر في «الأسس المنطقية للاستقراء». وهذا هو التأويل العلمي.

والسؤال هو: هل العنصر المتوسط، النص أو العمل الفني أو المعادلة الرياضية لها معنى ثابت في الداخل لا يتغير أم أن معناه متغير بتغير العلماء والفنانين والنقاد والفلاسفة؟ وما الضامن إذا تعددت القراءات والتفسيرات للعناصر المتوسطة من عدم الوقوع في النسبية المطلقة وإسقاط المعيارية، وبالتالي استحالة وجود تفاهم مشترك بين البشر وفهم متقارب حول موضوع واحد؟ هل تدخل الشعور كعنصر متوسط بين النص والعالم يقضي على موضوعية النص وإطلاقه لصالح ذاتية الشعور أي نسبيته؟

ليس للنص معنى ثابت نظراً للتعددية في الفهم، والمجاز في اللغة، والاشتباه في الوجود الإنساني، والمستويات في الثقافة والسلوك، وطبقات الفهم عند الناس. إذا ما ثبت معنى النص فإنه يوقع في القطعية وأحادية النظرة بل والتسلط إذا ما تمثلته السلطة السياسية أو العلمية أو الثقافية واعتبرته هو الصحيح، وكل فهم آخر باطل فتضيع حرية الفكر الممثلة في القول المأثور «فيها قولان».

ليس للفظ معنى قاموسي من خلال معاني الألفاظ في المعاجم بل اللفظ سياق، والسياق علاقات داخل النص وخارجه. وقد يوجد معناه في التجربة الإنسانية، الفردية والجماعية. فلا يفهم النص لغويا إلا باستعادة تجربته معاشياً. وداخل التجربة معان وماهيات ودلالات سماها الفقهاء الأصل، والاجتماعيون «الأنماط المثالية»، وفلاسفة العلم «النماذج الإرشادية»، وعلماء التحليل النفسي «الأنماط الأولية»، نوع من مُثُل أفلاطون داخل الشعور وليس خارجه.