تصاعدت وتيرة الصراع الإقليمي في مياه شرق المتوسط بين تركيا واليونان، مدعومةً من دول الاتحاد الأوروبي، في سياق تزايد المطامح الاستراتيجية التركية، للسيطرة على الثروات النفطية البحرية في الإقليم وعلى منافذه الحيوية، باستغلال أزمات المنطقة، وفي مقدمتها الأزمة الليبية المتفاقمة.
ما نعيشه راهناً هو في الواقع تحول استراتيجي نوعي، يتلخص في انهيار المنظومة الشرق أوسطية بكاملها، وتحلل محورها الشرقي العربي، بما يفسح المجال أمام معادلة شرق متوسطية جديدة، تشكل اليوم رهاناً أساسياً من رهانات اللعبة الدولية.
وما نعنيه بشرق المتوسط هو المجال الممتد من اليونان وتركيا إلى طنجة، ويشمل بالإضافة إلى سوريا ومصر أربعة من بلدان المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب).
ومع أن بداية التسعينيات شهدت عدة محاولات لإنشاء نظام اقتصادي وأمني متوسطي (مسار برشلونة)، يكرس الشراكة الوثيقة بين ضفتي المتوسط (في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا)، وهو المشروع الذي حاول الرئيس الفرنسي الأسبق «نيكولا ساركوزي» إحياءه بعد وصوله للسلطة عام 2007، إلا أن فكرة الاندماج المتوسطي لم تفض إلى أي نتيجة ملموسة.

ما نشهده راهناً ليس الرجوع إلى المقاربة المتوسطية التقليدية، فمن الواضح أن التحولات السياسية الداخلية والإقليمية، التي عرفتها بلدان غرب المتوسط الأوروبية، قد جرفتها بعيداً عن التحديات الكبرى التي شهدتها الضفة الشرقية للمتوسط.
ما نعنيه هنا بشرق المتوسط، هو العالم الذي يتشكل من ثلاثة مكونات حضارية وقومية أساسية: المكون اليوناني بامتداداته القبرصية، والمكون العربي في جناحيه الشرقي والغربي، والمكون التركي بامتداداته في جنوب القوقاز.
وإذا كانت اليونان تشكل اليوم بلداً محورياً في الاتحاد الأوروبي، وهي جبهته الشرقية الرخوة، إلا أنها ظلت بالمفهوم الجيوسياسي القديم والوسيط جزءاً أساسياً من أجزاء شرق المتوسط، وارتبطت عضوياً بتاريخه الديني والثقافي، وكان ينظر إليها قبل العصور الراهنة بصفتها إقليماً شرقياً، رغم مركزية أطروحة الأصل اليوناني للثقافة الأوروبية، التي جذرتها أدبيات عصر النهضة، والمعروف أن المدن التي ظهرت فيها الفلسفة اليونانية القديمة تنتمي راهناً إلى الأقاليم التركية في آسيا الصغرى، كما أن المدرسة الفلسفية اليونانية القديمة انتقلت بعد إغلاق مدرسة أثينا في القرن السادس إلى الإسكندرية وحران والرقة، في حين توطّدت المسيحية الرومانية في بلدان شمال أفريقيا، ويكفي التذكير بأن أهم شخصية لاهوتية مسيحية، وهو القديس أوغسطين، كان جزائرياً، وأن البابا غلاسيوس الأول صاحب الإصلاحات العقدية والمؤسسية الكبرى في المسيحية كان تونسياً.
يتعلق الأمر إذن بعالم شديد التداخل والترابط، انتماء لمدة قرون للإمبراطورية العثمانية التي أدى تحللها إلى بروز المعادلة القومية، التي فصلت جناحها الأوروبي عن جناحها الشرقي العربي، قبل أن تتأسس تركيا الحديثة على يد القوميين الطورانيين.
لقد وقف الجيل الأول من القوميين العرب ضد فكرة الهوية المتوسطية، التي حاول طه حسين بلورتها في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام 1938، وهي الفكرة نفسها التي تبناها الرئيس التونسي الأول الحبيب بورقيبة، بينما اقترب منها مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، في سعيه للتقرب من أوروبا، أما اليونان فسرعان ما انضمت إلى المشروع الأوروبي، بعد انتقالها من الحكم العسكري في السبعينيات (انضمت رسمياً للسوق الأوروبية المشتركة عام 1981).

ما نلمسه راهناً هو انفصال دول غرب المتوسط عن الرهانات الجيوسياسية لشرق المتوسط، بما فتح المجال أمام التمدد التركي، الذي أصبح اليوم خطراً محدقاً بأمن واستقرار ومصالح باقي مكونات الإقليم، أي اليونان وقبرص والبلدان العربية المشرقية والمغربية. فبعد تجربة التدخل الفاشلة في سوريا، يتركز الآن التوسع التركي في ليبيا من خلال دعم حكومة طرابلس التي يتحكم فيها «الإخوان»، بعد أن نجح أردوغان في إبرام اتفاقية حدودية مع رئيس حكومة «الوفاق» فايز السراج في نوفمبر 2019، نجم عنها تحوير خطير في الخارطة الحدودية البحرية لشرق المتوسط، أثار احتجاج مصر واليونان وقبرص. 
ويتعلق الأمر بمنطقة يمر بها ربع الملاحة التجارية الدولية، وتتركز فيها الثروة الغازية المستقبلية باحتياط يقدر بنحو 350 مليار متر مكعب، فضلاً عن أهميتها الاستراتيجية الفائقة على خطوط التماس الكبرى في المنطقة الأوروآسيوية الواسعة.
ومن هنا أهمية اندماج القوى والأطراف العربية الفاعلة في المعادلة شرق متوسطية الجديدة في مواجهة الأطماع والتدخلات التركية، وصولاً لنظام إقليمي يؤسس لحضور عربي ناجع في الأجندة الدولية في إحدى جبهاتها المحورية المستقبلية.