استغرق الأمر هذه المرة ستة أشهر فقط من المساومة وخمسة مواعيد نهائية ضائعة، لكن الدولة المقترضة الأشهر في أميركا اللاتينية (تسعة حالات تخلف عن سداد ديون سيادية منذ الاستقلال، و20 عملية إنقاذ لصندوق النقد الدولي) تمكنت أخيراً من التوصل إلى اتفاق مع حاملي سنداتها الأجانب. وبالنسبة للأرجنتين، التي كانت تمضي سنة من كل ثلاث سنوات في حالة ركود منذ عام 1950، فإن الاتفاقية الجديدة، الموقعة في 4 أغسطس الجاري، تثبت مرة أخرى أنها الجزء السهل.
يستحق الرئيس «ألبرتو فرنانديز» ووزير اقتصاده «مارتن جوزمان» الثناء على الاستمرار في المحادثات لإعادة جدولة 65 مليار دولار من الديون الخارجية المدنية، مع القليل من المعارضة من جانب الحزب البيروني ونائبة الرئيس «كريستينا فرنانديز دي كيرشنر». ونتذكر عامي 2014 و2015، عندما كانت فرنانديز دي كيرشنر تدير البلاد، وعملت على تحويل مفاوضات الديون إلى مسرحية عاطفية.
ومع ذلك، فإن اللياقة لا تعني الإنقاذ، وللالتزام بالاتفاقية مع المقرضين من القطاع الخاص، يجب ألا يقنع فرنانديز وصندوق النقد الدولي، أكبر دائن للبلاد، بإعادة جدولة 44 مليار دولار في شكل قروض فحسب، ولكن أيضاً إقناع المواطنين البرازيليين، الذين يعانون من الركود الاقتصادي، بتحمل تضحيات حتمية وتغييرات سياسية غير مستساغة، لكنها مطلوبة لإعادة الأرجنتين إلى الملاءة المالية والنمو الاقتصادي.
بعد ثلاث سنوات من الانكماش الاقتصادي العميق، سقطت الأرجنتين بشدة، فقد حصلت على ثاني أدنى درجة في مؤشر البؤس الأخير لـ «بلومبيرج إل بي»، حيث يعيش حوالي 40% من السكان في فقر. ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد المنكوب بالوباء، والمغلق منذ مارس الماضي، بنسبة تصل 13% هذا العام. ويقول صندوق النقد الدولي إن الأمر سيحتاج إلى ما بين 55 و85 مليار دولار لتخفيف ديون الأرجنتين، وصولاً إلى العقد المقبل.
ومنح هذا المزيجُ من المصائب الأرجنتينَ بعضَ التساهل، وربما ساعد في تمهيد الطريق نحو التوصل إلى صفقة ديون. وسيكون أمام الأرجنتين أربع سنوات للبدء في سداد ديونها المخفضة، ويتوقع العديد من المحللين أن يوافق صندوق النقد الدولي على إعادة جدولة قروضه إلى أكبر مدين له. ومع ذلك، فإن موافقة الصندوق ستأتي بشروط.
وقالت «أدريانا دوبيتا»، من «بلومبيرج إيكونوميكس»: «يستحق جوزمان الثناء، لكن السؤال هو: ماذا سيفعل بهذه الفرصة لالتقاط الأنفاس التي فاز بها للأرجنتين؟». والمعضلة الرئيسية التي لم يتم الرد عليها: كيف يمكن إدارة 70% من الدَّين الوطني المقوَّم بالدولار في وقت تعَد فيه الأرجنتين شبه مستبعدة من أسواق رأس المال الأجنبية؟ «سيتعين عليه إعادة الاقتصاد إلى النمو، والقيام بذلك سيتطلب خفض الإنفاق العام غير الفعال، وإجراء إصلاحات هيكلية».
من الصعب معرفة من أين نبدأ. حتى قبل حالات الطوارئ المعقدة هذا العام، كانت الأرجنتين إحدى البلدان المتخلفة عن الركب على مستوى العالم، حيث حصلت على أدنى مرتبة في المنتدى الاقتصادي العالمي من حيث القدرة التنافسية الاقتصادية بين دول مجموعة العشرين، وحصلت على المركز الـ83 بين 141 دولة حول العالم. وهي تفتقر إلى الكثير من الراحة؛ جراء الإصلاح القضائي الذي اقترحته الحكومة، والذي يعتقد المنتقدون في أنه يهدف لحماية فرنانديز دي كيرشنر من العديد من التهم الجنائية مثل غسيل الأموال. ولم تساعد محاولة القصر الوردي، أو مقر الحكم الأرجنتيني، «كاسا روسادا» لتأميم شركة فيسينتين العملاقة لطحن فول الصويا والمتعثرة مالياً في يونيو الماضي، وعلى الرغم من أن القاضي ألغى عملية الاستحواذ، أعلن فرنانديز أن التأميم لا يزال مطروحاً على الطاولة.
كما تقوم الشركات متعددة الجنسيات بسحب حصصها، حيث أعلنت شركة الخطوط الجوية «لاتام» في أميركا اللاتينية مؤخراً أنها ستنهي الرحلات الداخلية في الأرجنتين، ولم يكن «كوفيد-19» سوى جزء من المشكلة. وأفادت «بلومبرج نيوز» بأن ارتفاع تكاليف التشغيل بسبب الضرائب الباهظة، ونزاعات العمل المزمنة، والإنتاجية المنخفضة من قبل أطقم الرحلات.. كل ذلك أدى إلى تضخم تكاليف التشغيل إلى نقطة الانهيار. ربما ليس من المستغرب أن العديد من الشركات الأرجنتينية تدرس الانتقال عبر الحدود إلى أوروجواي الأكثر ملاءمةً للأعمال التجارية. يقول «نيكولاس سالدياس»، المحلل السياسي في المشروع الأرجنتيني التابع لمركز ويلسون: «أصبحت الأرجنتين مكاناً معادياً للغاية للاستثمار، مع وجود مسؤول تنفيذي خارج عن السيطرة يسعى إلى مصادرة الشركات، ويهدد التحالف البيروني الحاكم بمزيد من مصادرة الأملاك». إن الأرجنتين ليست دولة فقيرة، لكنها تفتقر للإدارة السليمة، وتبدد بشكل مزمن رأس المال البشري والمشاريع التي تُحسد عليها. يقول «ألبرتو راموس»، كبير الاقتصاديين في بنك «جولدمان ساكس»: «لقد أدى العبء الضريبي المرتفع والإنتاجية المنخفضة والحمائية إلى سنوات من قلة الاستثمار والازدهار والكساد. والمطلوب هو إجراء إصلاحات هيكلية». وقال «برونو بينيتي»، أستاذ العلوم السياسية في جامعة «توركواتو دي تيلا» في بوينس آيرس: «ما تبقى من ولاية فرنانديز سيكون فترة للسيطرة على الضرر.. ما قد نراه هو التبرير الذي يسوقه فرنانديز لخفض الإنفاق والإصلاحات الضرورية، من خلال تحميل اللوم على الوباء، أو الرئيس السابق ماوريسيو ماكري».

*كاتب متخصص في شؤون أميركا اللاتينية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»